الثالث : أنّ هذه الجملة تفسير لقوله : «خيرا» ، وذلك أنّ الخير هو الوحي الذي أنزل الله فيه : من أحسن في الدنيا بالطاعة ؛ فله حسنة في الدنيا ، وحسنة في الآخرة.
وقوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) الظاهر تعلقه ب «أحسنوا» ، أي : أوقعوا الحسنة في دار الدنيا ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنّه حكاية حال من «حسنة» ، إذ لو تأخر ؛ لكان صفة لها ، ويضعف تعلقه بها نفسها ؛ لتقدمه عليها.
فصل
قال المفسرون : إنّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيصلىاللهعليهوسلم فإذا جاء [سائل](١) المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيقولون : ساحر ، وكاهن ، وشاعر وكذاب ، كذبوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمد صلىاللهعليهوسلم وما أنزل عليه ؛ فيقولون «خيرا» ، أي أنزل خيرا ، ثم ابتدأ فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي كرامة من الله.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هي تضعيف الأجر إلى العشرة (٢). وقال الضحاك : هي النصرة والفتح (٣). وقال مجاهد : هي الرزق الحسن (٤) ، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير.
وقولهم «خيرا» جامع لكونه حقا وصوابا ، ولكونهم معترفين بصحته ، ولزومه ، وهذا بالضدّ من قول الذين لا يؤمنون : إن ذلك أساطير الأولين. وتقدم الكلام على «خير» في سورة الأنعام في قوله تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) [الأنعام : ٣٢].
ثم قال تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ) ، أي ولنعم دار المتقين دار الآخرة ، فحذفت ؛ لسبق ذكرها.
هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها ، فإن وصلتها بما بعدها قلت : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ) برفع «جنّات» على أنها اسم ل «نعم» كما تقول : نعم الدّار دار ينزلها زيد.
قوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح ؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجه :
رفعها بالابتداء ، والجملة المتقدمة خبرها.
أو رفعها بالابتداء ، والخبر محذوف ؛ وهو أضعفها ، وقد تقدم تحقيق ذلك.
ويجوز أن يكون «جنّات عدن» خبر مبتدإ مضمر لا على ما تقدم ، بل يكون المخصوص [بالمدح](٥) محذوفا ؛ تقديره : ولنعم دار المتقين دارهم هي جنات.
__________________
(١) في ب : لشأن.
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٦٧).
(٣) ينظر : المصدر السابق.
(٤) ينظر : المصدر السابق.
(٥) زيادة من : أ.