وقيل : المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا. وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية.
قوله تعالى : (الَّذِينَ صَبَرُوا) محلّه رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم الذين صبروا ، أو نصب على تقدير أمدح ، ويجوز أن يكون تابعا للموصول قبله نعتا ، أو بدلا ، أو بيانا فمحله محله.
والمعنى : أنّهم صبروا على العذاب ، وعلى مفارقة الوطن ، وعلى الجهاد ، وبذل الأموال ، والأنفس في سبيل الله.
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة ، كانوا يقولون : الله أعلى ، وأجلّ من أن يكون رسوله واحدا من البشر ؛ بل لو أراد بعثة رسول إلينا كان يبعث ملكا ، وتقدم تقرير هذه الشبهة في سورة الأنعام ؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) والمعنى : أنّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولا إلّا من البشر ، وهذه العادة مستمرة ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال.
ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحدا من النساء ، ودلت على أنه ـ تعالى ـ ما أرسل ملكا ، إلّا أن ظاهر قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، ثم قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : يريد أهل التوراة ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) يعني التوراة (١). وقال الزجاج : معناه سلوا كلّ من يذكر بعلم وتحقيق.
واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجا بهذه الآية ؛ فقال : لمّا لم يكن أحد المجتهدين عالما ، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم ؛ لقوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإن لم يجب ؛ فلا أقل من الجواز.
واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة ، فإن كان عالما بحكمها ، لم يجز له القياس ، وإن لم يكن عالما بحكمها ، وجب عليه سؤال من كان عالما بها ؛ لظاهر هذه الآية ، ولو كان القياس حجة ، لما وجب عليه سؤال العالم ؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية ؛ فوجب أن لا يجوز.
والجواب : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فالإجماع أقوى من هذا الدليل.
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٠).