وقال أبو حيّان ـ بعد ما حكى أنّ «ما» في موضع نصب عن الفرّاء ، ومن تبعه ـ : وقال أبو البقاء ، وقد حكاه ؛ وفيه نظر.
قال شهاب الدّين (١) : «وأبو البقاء لم يجعل النّظر في هذا الوجه ، إنّما جعله في تضعيفه ، بكونه يؤدّي إلى تعدي فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني ، فإنه قال : «وضعّف قوم هذا الوجه ، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظر» فجعل النظر في تضعيفه لا فيه».
وقد يقال : وجه النّظر أنّ الممتنع تعدى ذلك الفعل ، أي : وقوعه على ما جر بالحرف ، نحو : «زيد مرّ به» فإن المرور واقع ب «زيد» ، وأمّا ما نحن فيه ، فليس الجعل واقعا بالجاعلين ، بل ما يشتهون.
وكان أبو حيّان يعترض دائما على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص : ٣٢].
والجواب عنهما ما تقدّم ، وهو أنّ الهزّ ، والضّم ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدّم لنا هذا البحث في مكان آخر ، وإنّما أعدته لصعوبته ، وخصوصيته ، هذا بزيادة فائدة ، وأراد بقوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل : ٥٧] أي : الشيء الذي يشتهونه ، وهو السّتر.
ثمّ إنه ـ تعالى ـ ذكر أنّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله ـ تعالى ـ فقال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى).
التّبشير في عرف اللغة : مختصّ بالخبر الذي يفيد السرور ، إلا أنّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه ، ومعلوم أن السّرور كما يوجب تغير البشرة ، فكذلك الحزن يوجبه ؛ فوجب أن يكون التّبشير حقيقة في القسمين ، ويؤكّده قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢]. وقيل : المراد بالتّبشير ههنا الإخبار.
قوله : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) يجوز أن تكون «ظلّ» ليست على بابها من كونها تدلّ على الإقامة نهارا على الصّفة المسندة إلى اسمها ، وأن تكون بمعنى : «صار» وعلى التقديرين هي ناقصة ، و«مسودّا» خبرها.
وأما «وجهه» ففيه وجهان :
أشهرهما ، وهو المتبادر إلى الذّهن أنه اسمها.
والثاني : أنه بدل من الضمير المستتر في «ظلّ» : بدل بعض من كلّ ، أي : ظلّ أحدهم وجهه ، أي : ظل وجه أحدهم.
قوله : «كظيم» يجوز أن يكون بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله : (وَهُوَ
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٣٨.