ظنّه بأنّها تفعل إقرارا للمنكر وتركا لإنكاره ، فيعذب على ما تركه من الإنكار ، ورضي به من المنكر ، وأما من نهى عنه ، وعصي أمره ، فالله أكرم من أن يعذّبه.
قال ابن تيمية : وهذا قريب. وأجود منه ، إن شاء الله ـ تعالى ـ أن العذاب على قسمين:
أحدهما : ألم وأذى يلحق الميّت بسبب غيره ، وإن لم يكن من فعله ؛ كما يلحق أهل القبور من الأذى بمجاورة الجار السيّيء ، وبالأعمال القبيحة عند القبور ، والجلوس على القبر ، أو التغوّط عليه ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يتألّم الإنسان بها حيّا وميتا ، وإن لم تكن من فعله. فهذا الميّت لما عصي الله بسببه ، ونيح عليه ، لحقه عذاب وألم من هذه المعصية.
قال القاضي : سئلت عن ميّت دفن في داره ، وبقرب قبره أولاد يشربون ويستعملون آلة اللهو ، هل يتأذّى الميّت؟.
فأجبت : أنّه يتأذّى.
وروى بإسناده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الميّت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته» (١).
وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : إذا مات لأحدكم الميّت ، فأحسنوا كفنه ، وعجّلوا إنفاذ وصيته ، وأعمقوا له في قبره ، وجنّبوه جار السّوء.
قيل : يا رسول الله : وهل ينفع الجار الصّالح في الآخرة؟ قال : وهل ينفع في الدّنيا؟ قالوا : نعم ، قال : وكذلك ينفعه في الآخرة (٢).
الثاني : أنّ طبع البشر يحبّ في حياته أن يبكى عليه بعد موته ؛ لما فيه من الشّرف والذّكر ، كما يحبّ أن يثنى عليه ، ويذكر بما يحبّ ، وكما يحبّ أن يكون المال والسلطان لعقبه ، وإن أيقن أنّه لا لذّة له بذلك بعد الموت ، فعوقب بنقيض هذه الإرادة من عذاب
__________________
(١) ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١ / ٣٧٢) رقم (١١٠٤) وقال : سألت أبي عن حديث رواه ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ... فذكره وقال : قال أبي : هذا حديث منكر وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٢٦٩) قال : رواه الديلمي بلا سند عن عائشة مرفوعا.
ويشهد له ما أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما عنها رفعته : كسر عظم البيت ككسر عظمه حيا وقال النجم وعند الطبراني والحاكم وابن مندة عن عمارة بن حزم قال رآني رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالسا على قبر ، فقال يا صاحب القبر انزل عن القبر ، لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك ، ورواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته ، ورواه ابن مندة عن القاسم بن مخيمرة قال لأن أطأ على سنان محمي حتى ينفذ من قدمي أحب إلي من أطأ على قبر ، وإن رجلا وطىء على قبر وإن قلبه ليقظان إذ سمع صوتا إليك عني يا رجل ولا تؤذني. انتهى.
(٢) ذكره السيوطي في «اللآلىء المصنوعة» (٢ / ٤٣٩).