أهل الإحسان ، أو من أهل الإساءة ، فاترك الظاهر المنطوق ، وأضمر ما دلّت عليه حال المسند إليه المشيئة ، لم تكن على سداد».
وتتبّعه أبو حيّان في هذا ، فقال : أمّا ما ارتكبه من المجاز ، فبعيد جدّا ، وأما قوله : «لأنّ حذف ما لا دليل عليه غير جائز» فتعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثمّ ما يدل على حذفه ، وقوله : «فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائم» إلى (عِلْمُ الْغَيْبِ) فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثّل به في قوله «أمرته ، فقام» ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضدّه ، أو نقيضه ؛ كقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] أي : ما سكن وتحرّك ، وقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، أي : والبرد ، وقول الشاعر : [الوافر]
٣٣٩١ ـ وما أدري إذا يمّمت أرضا |
|
أريد الخير أيّهما يليني |
أألخير الّذي أنا أبتغيه |
|
أم الشّرّ الّذي هو يبتغيني (١) |
أي : وأجتنب الشّر ، وتقول : «أمرته ، فلم يحسن» فليس المعنى : أمرته بعدم الإحسان ، بل المعنى : أمرته بالإحسان ، فلم يحسن ، والآية من هذا القبيل ، يستدلّ على حذف النّقيض بنقيضه ، كما يستدلّ على حذف النظير بنظيره ، وكذلك : «أمرته ، فأساء إليّ» ليس المعنى : أمرته بالإساءة ، بل أمرته بالإحسان ، وقوله : «ولا يلزم هذا قولهم : أمرته فعصاني» نقول : بل يلزم ، وقوله «لأنّ ذلك مناف» أي : لأنّ العصيان مناف ، وهو كلام صحيح ، وقوله : «فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي» لا يسلّم بل مدلول عليه ومنويّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض ؛ كما بيّنا ، وقوله : «لا ينوي مأمورا به» لا يسلّم ، وقوله «لأنّ «ففسقوا» يدافعه ، إلى آخره» قلنا : نعم ، نوى شيئا ، ويظهر خلافه ؛ لأنّ نقيضه يدل عليه ، وقوله : ونظير «أمر» «شاء» ليس نظيره ؛ لأن مفعول «أمر» كثر التصريح به. قال سبحانه جل ذكره : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠] (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [النحل : ٧٦] (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : ٢٩] (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) [الطور : ٣٢] ، وقال الشاعر : [البسيط]
٣٣٩٢ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به |
|
........... (٢) |
قال شهاب الدين رحمهالله : والشيخ ردّ عليه ردّ مستريح من النّظر ، ولولا خوف السامة على الناظر ، لكان للنظر في كلامهما مجال.
قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : كما أنّ قوله : «أمرته ، فعصاني» يدلّ على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إنّ المعصية منافية للأمر مناقضة له ، فكذلك قوله : أمرته ففسق يدلّ على أنّ المأمور به شيء غير الفسق ؛ لأن الفسق عبارة عن الإتيان
__________________
(١) تقدم.
(٢) تقدم.