فالقائلون بالنسبية الفلسفية يؤكّدون الطابع النسبي لجميع الحقائق الّتي تبدو للإنسان ، سواء أكانت في مجال التصور والإدراك المفرد ، أو في مجال التصديق والإدراك المركب ، وذلك باعتبار الدور الّذي يلعبه حسُّ كلِّ فردٍ وعقلُه في عملية اكتسابه للحقائق المفردة أو المركبة. فليست الحقيقة في هذه النظرية إلّا الأمر الّذي تقتضيه ظروف الإدراك وشروطه. ولما كانت الظروف والشروط تختلف في الأشخاص ، والحالات المتنوعة ، كانت الحقيقةُ في كل مجال ، حقيقةً بالنسبة إلى ذلك المجال الخاص ، بما ينطوي عليه من ظروف وشروط. وليست الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع ، لتكون مطلقة بالنسبة إلى جميع الأحوال والأشخاص(١).
وبعبارة أُخرى : إنّ الصورة الواردة من الخارج إلى الذهن من طريق الحواس ، تخضع ـ في الكيفية والخصوصية ـ لكيفية تركيب الحواس ، وخواصها ، وكيفية عملها ، والظروف المحيطة بها حين عملية الإدراك. وبسبب دخالة هذه الأُمور في كيفية تبلور الحقيقة عند كل إنسان ، لا يمكن الحكم بأنّ ما نتصوره عن الخارج ، هو نفس الموجود في الخارج ، ولا يكون حجة إلّا على من كان مماثلاً لنا في تلك الكيفيات والظروف ، وأمّا المغاير لنا فيها ، فيدرك الواقع بشكل آخر. ولأجل ذلك يقول علماء النفس : إنّ كيفية الإحساس ، شدّةً وضعفاً ، يتبع الجهاز المنفعل. فرُبَّ طارئة تهز إنساناً بعنف ، وهي عينها لا تهز آخر إلّا قليلاً ، وما ذلك إلّا للاختلاف في الجهاز المنفعل.
وقد راجت هذه الفكرة بعد «ديكارت» رواجاً كاملاً ، وقد كان هو يقول : «إنّ المشابهة بين الصورة الذهنية والخارجية ، ليست بأزيد من المناسبة بين اللفظ ومعناه». فالقدر المشترك بينهما ، هو أنّ اللفظ مصدر انتقال الذهن إلى المعنى ، كما أنّ الشيء الخارجي منشأ انتقالنا إلى الصورة الذهنية عنه : فكما أنّ المعنى ليس إلّا نفس اللفظ ، وإنْ كان لا يفقد الرابطة ؛ فهكذا الصورة الذهنية ليست عين الخارج ، وإنْ كانت غير منقطعة الصّلة به.
وعلى ذلك ، فما ندركه من الألوان والأصوات وغيرها من المحسوسات ، إنّما
__________________
(١) لاحظ : فلسفتنا : ١٥٠.