٣. إنّا نفنّد تحديد دور العقل في مجال المعرفة بالتجزئة والتركيب ، والتجريد والتعميم ، فإنّ القول بأنّ الحسّ هو الينبوع الأساسي للتصورات ، لا يسلب عن الذهن قدرة توليد معان جديدة لم تدرك بالحسّ ، فليس من الضروري أن يكون قد سبق تصوراتنا البسيطة جميعاً ، الإحساس بمعانيها.
فالحسُّ ، على ضوء ما أثبتته التجارب ، هو البنية الأساسية الّتي يقوم على قاعدتها صرح التصورات البشرية ، ولكن ذلك لا يعني تجريد الذهن عن ابتكار تصورات وتصديقات جديدة على ضوء التصورات المستوردة من الحسّ. كيف ، وقد سبق منا القول ـ عند البحث عن تعريف العلم ـ بأنّ هناك مفاهيم تصورية باسم المعقولات الثانوية ، تنالها النفس وتقف عليها من دون أن يكون لها أثر في الحسّ والخارج ، كما أنّ هناك تصديقات تنالها النفس من دون أن تعتمد في نيلها على الإدراكات الحسية ، كالحكم بامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، أو امتناع الدور والتسلسل. فمحاولة الحسيين إرجاع كل المعارف التصورية والتصديقية إلى الحسّ ، بنحو من الأنحاء ، محاولة فاشلة. وسيوافيك بيان واف عند البحث عن العقل.
فالفرق ـ إذن ـ بين منهجنا ومنهج الحسيين هو أنّهم يحصرون أداة المعرفة به ، بينما نحن نجعل المعرفة الحسّية ممهدة لتسنّم العقل منصة إدراك أمور ليس لها في الخارج من أثر ، في مجالي التصور والتصديق ، على ما عرفت. وكم فرق بين حصر المعرفة بالحسيّة فقط وحصر أدواتها بالحس فحسب ؛ وجعل الحسّ ومعارفه ممهدة لحصول معارف أرقى وأعلى ، كما عليه فلاسفة الإسلام.