طريق الحواس. وبعد ذلك يأتي دور العقل والفكر ، وهو لا يخرج عن أحد الأمرين التاليين : التركيب والتجزئة ؛ والتجريد والتعميم.
أمّا عمل الذهن في مجال التجزئة والتركيب ، فكما لو رأى عن طريق الباصرة جبلاً وذهباً في الخارج ، فيركب الذهن بينهما ويتصور جبلاً من ذهب. أو يرى حيواناً وشجراً ، فيجزّئهما إلى أعضاء وأجزاء.
وأمّا عمله في مجال التجريد والتعميم فهو بأنّ يفرز خصائص الصور ويجرّدها عن مشخصاتها ويترك مفاهيمها العامة ، كما إذا رأى زيداً وعمراً وبكراً ، فيجرِّدهم عمّا يحيط بهم ويلابسهم من المشخصات ، ويأخذ بالقدر المشترك وهو الإنسانية. وهكذا الحال في سائر أدوات الحسّ.
وقد اشتهر قول المبشر بهذه النظرية : «ليس من شيء في العقل إلّا وله أثر في الحسّ».
وعلى ضوء ما تقدم يكون الرصيد الوحيد للمعارف البشرية هو الحسّ ومعطياته ، وأمّا دور الذهن والعقل فينحصر في الأُمور الأربعة : التجزئة والتركيب والتجريد والتعميم.
وتحليل هذه النظرية يقع ضمن الأُمور التالية :
١. إنّ ما ذكروه من أنّ الإنسان يولد خالي الذهن عن كل معرفة ، أمر مسلَّم أقرّت به الفلاسفة جميعاً ، وصرّح به الذكر الحكيم كما تقدّم (١). وإليه يشير قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية» (٢).
٢. من المسلّم أيضاً أنّ الحسّ هو الينبوع الأساسي للتصورات والتصديقات البديهية والنظرية وأنّ من حرم لوناً من ألوان الحسّ ، لا يستطيع أن يتصور المعاني الكليّة ذات العلاقة بذلك الحسّ الخاص ، ومن فقد جميع حواسه ، عجز عن إدراك أبسط المعارف وتصورها.
__________________
(١) سورة النحل : الآية ٧٨.
(٢) نهج البلاغة ، الكتاب ٣١ : كتابه عليهالسلام لولده الحسن عليهالسلام.