مثال : إنّا نقول : العالم متغيّر ، وكل متغيّر حادث ، فالعالم حادث. هذا البرهان مركب من صغرى وكبرى ، وكل منهما مبرهن بالدليل العقلي ، بالبيان التالي :
أمّا الصغرى ، فقد كشفت نظرية الحركة الجوهرية (١) عن أنّ ذات المادة بصميمها وجوهرها في حالة السيلان والتدرج والحدوث والزوال ، وأنّ الحركة ليست مختصة بظواهرها وسطوحها (أعراضها) ، بل تعمّ صلبها وجوهرها كذلك. فالكون بجميع ذرّاته في تحول وتغيّر مستمرين ، وما يُتراءى للناظر من الثبات والاستقرار ليس إلّا من خطأ الحواس وخداعها ، ولكن الحقيقة أنّ كلّ ذرّة من ذرّات المادة ، خاضعة للتغيّر الجوهري.
وأمّا الكبرى ، أعني كون «كلِّ متغيّر حادث» ، فإنّ المراد من المتغير في موضوعها ، ليس هو المتغير في الصفات والأعراض فحسب ، بل المتغير في الصميم واللبّ أيضاً ، فيكون المتغيّر بهذا المعنى مسبوقاً بالعدم ، بمعنى أنّ كل مرتبة متقدمة ، تحتضن عدماً للوجود المتأخر ، وليس الحدوث إلّا الوجود بعد العدم.
فالعالم مُتغيِّرٌ في الذات والصفات ، حسب تلك النظرية التي أثبتتها البراهين.
وكلُّ متغيّر في الذات والصفات ، بما أنّه لم يكن ثمّ كان ، حادثٌ ، إذ ليس الحدوث إلّا الوجود بعد العدم.
فينتج : أنّ العالم حادث.
فها إنّك ترى أنّ العلم بكل واحدة من الصغرى والكبرى لم يتوقف على شيء.
نعم ، الفرق بين الأحكام العقلية المعتمدة على البراهين العقلية ، والأحكام الكليّة المعتمدة على التجربة ، هو أنّ البراهين العقلية لا تعتمد على الحسّ في
__________________
(١) لاحظ الأسفار : ٧ / ٢٨٠ و ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٢٩٧.