ويردونه على وجه القطع والبتّ ، ويشبّهون من يمشي طريق المعرفة بالعقل ، بمن يمشي برجل خشبية.
غير أنّ ذلك مغالاة في القول ، لا يصدقه العقل ، فكيف بالكتاب العزيز؟!
مع أنّا نؤاخذ عليهم بأنّ ما ذكروه ، هو استدلال بالعقل والبرهان على إبطال العقل ، والبرهان ، حيث يشبّهون الماشي في طريق كسب المعرفة على ضوء العقل ، بمن يمشي برجل خشبية ، فكما أنّ الرجل الخشبية تعرقل الإنسان عن إدامة المشي ، فهكذا العقل. إذ لو لم يكن العقل من أدوات المعرفة ، فكيف يستدلّ به على حصر أدوات المعرفة بالإلهام والإشراق.
ولو رفضنا المغالاة في القول ، فالحق أن نقول : إنّ الحسّ والعقل أوسع نفعاً من الإلهام والإشراق ، فإنّ الأَولَيْن يعمّ الانتفاع بهما كل الناس ، بينما الأخيرين لا ينتفع بهما إلّا قلّة ممّن ذكرنا أوصافهم ، وليسا رميةً لكلّ نبّال.
هذا ، والذكر الحكيم كما دعا إلى هذا النوع من المعرفة كما سيوافيك ، دعا إلى الانتفاع بالحسّ والعقل وأكّد عليه كثيراً ، من ذلك قوله سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).
وبهذا تقف على الفرق بين العارف الإسلامي والصوفي المتقشّف ، فالأخير يخصّ أداة المعرفة بالإلهام ، بينما العارف الإسلامي ، كما يستضيء بهذه الأداة ، يستضيء بالحسّ والعقل ، ويعطي كلًّا حقَّه.
وللشيخ الرئيس ابن سينا في الإشارات ، ولشارحه أيضاً المحقق الطوسي ، كلام في المقام ، نذكر منه المقتطفات التالية :
قال الشيخ : «إنّ للعارفين مقامات ودرجات يُخَصُّونَ بها ، وهم في حياتهم الدنيا ، دون غيرهم ، فكأنّهم وهم في جلابيب من أبدانهم ، قد نضّوها وتجرّدوا عنها إلى عالم القدس ، ولهم أُمور خفية فيهم ، وأُمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها ، ويستكبرها من يعرفها».
__________________
(١) يونس : ١٠١.