وقال المحقق في شرحه : «إن نفوسهم الكاملة ، وإن كانت في ظاهر الحال ملتحفة بجلابيب الأبدان ، لكنها كأنْ قد خلعت تلك الجلابيب ، وتجرّدت عن جميع الشوائب الماديّة ، وخلصت إلى عالم القدس متصلة بتلك الذوات الكاملة البريئة من النقصان والشّر ، ولهم أُمور خفية ، وهي مشاهداتهم لما تعجز عن إدراكه الأوهام ، وتكلّ عن بيانه الألسنة ، وابتهاجاتهم بما لا عين رأت ولا أُذن سمعت» (١).
وقال الشيخ الرئيس في موضع آخر : «وإذا بلغك أنّ عارفاً حدّث عن غيب ، فأصاب ، متقدِّماً ببشرى أو نذير ، فصدِّق ، ولا يتعسّرن عليك الإيمان به ، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة» (٢).
ثمّ إنّ الشيخ الرئيس يصرِّح بأنّ النفوس القوية إذا كانت غالبة على الشواغل الحسيّة ، تقدر على الاتّصال بعالم القدس ، وتنتقش فيها صور ومعان من ذلك العالم ، ثمّ يعود فيخبر بما أدرك. فكأنّ انغمار النفس في عالم الطبيعة ، واشتغالها بالأُمور الحسيّة ، يمنعها عن الاتّصال ، يقول :
«كلما كانت النفس اقوى قوّة ، كان انفعالها عن المحاكيات (٣) أقلّ ، وكان ضبطها للجانبين أشدّ. وكلما كانت بالعكس ، كان ذلك على العكس» (٤).
وقد أشار صدر المتألهين إلى إمكان الإلهام والإشراق بوجه عام ، بقوله :
«إنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن مهاجرة إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى ، وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى. وهذا النور إذا تأكّد وتجوهر ، كان جوهراً قدسياً يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي.
__________________
(١) الإشارات مع شرحه ، ج ٣ ، النمط التاسع في مقامات العارفين : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.
(٢) المصدر السابق : ٣٩٨.
(٣) أي الشواغل الحسيّة.
(٤) المصدر السابق : ٤٠٦.