فالنتيجة أنّ وجود تلكما الشخصيتين وما اتّسمتا به ، ليس من الأُمور الحسيّة ، بل من الأُمور الاستنباطية العقلية المعلومة تحت ضوابط عقلية.
٢. نحن نعتقد بوجود حضارات ازدهرت عبر التاريخ ثمّ اندثرت ولم يبق منها إلّا الأطلال الّتي ترشد إليها. ولكن معرفتنا بها معرفة عقلية لا حسيّة ، وذلك لأنّ المشاهَد لنا هو الآثار الباقية ، وأمّا نفس الحضارات الّتي كانت مزدهرة ، فهي غائبة عن حواسنا وإنّما نستدلّ عليها بالآثار :
إنّ آثارنا تدلّ علينا |
|
فانظروا بعدنا إلى الآثار |
٣. إنّ هناك أمماً كبيرة عفا عليها الزمن ، ونحن نذعن بوجودها ونتصور أنّ معرفتنا بها حسيّة ، مع أنّها في الحقيقة عقلية مستنبطة فالإنسان إذا رأى الأهرام في «الجيزة» يستدلّ فوراً على وجود أمّة في غابر الأزمان ، كانت واقفة على أُصول الهندسة ، وتمتلك رافعات عملاقة ، وجيشاً عظيماً من العمّال مكّنها كل ذلك من تشييد هذه الأهرام(١).
٤. نحن نعتقد بوجود عواصم كبيرة كلندن وموسكو وطهران وطوكيو ، كما أنّ القاطنين في هذه العواصم يعتقدون بوجود عواصم أُخرى في شرق العالم وغربه ، ولم يروها بأمّهات أعينهم ولكنّهم مذعنون بذلك.
وليست هذه المعرفة حسيّة بل عقلية مستنبطة ، حيث تتواتر الأخبار عن وجودها وعظمتها عن طريق المسافرين والرحّالة ، فيحكم العقل باستحالة أن يتواطأ هؤلاء جميعاً في إخبارهم. فالمحسوس لنا في الواقع هو نفس الإخبار وأمّا وجود البلدان فعقلي مستنبط.
٥. يقول راسل (٢) : نحن نعتقد بوجود الشمس في السماء ، وأنّه ليست لدينا معرفة حسيّة أوضح منها. ولكن المحسوس لنا في الواقع هو ضوء الشمس
__________________
(١) والقرآن يسمّي هذه المعرفة وسابقتها معرفة «آيوية» وهي الوقوف بالآية وخصائصها ، على ذي الآية وصفاته ، ويحثّ عليها في كثير من آياته. وعلى ذلك فمعرفة وجود خالق الكون لا تختلف عن معرفة الحضارات وأصحابها ، فالاستدلال عليها من باب واحد وهو الاستدلال بالآية على ذيها ، وسيأتي الكلام في ذلك.
(٢)lessuR dnartreB ، (١٨٧٢ ـ ١٩٧٠ م).