توضيح ذلك : إنّا إذا رأينا أشخاصاً معينين ، تقدر النفس على إدراك مفهوم كلي يصدق على هؤلاء وغيرهم. وهذا المفهوم بما أنّه يصدق على غير هؤلاء من الأفراد الموجودين في زمن الإدراك ، يكون تبسيطاً عَرْضياً للمعرفة. وبما أنّه يصدق حتّى على الأفراد الغابرة والآتية يكون تبسيطاً طولياً للمعرفة. فهذه المعرفة لا تتجاوز البسط والتعميم في كلا البعدين.
ولكن هناك معرفة أُخرى أعلى وأكمل ، وهي التكميل العمقي للمعرفة ، وبسطها إلى آفاق عليا ، ألا وهي الاستدلال بالمرئي على غيره ، وبالآثار على ذيها ، وبالآيات على صاحبها.
والاستدلال بالآية على ذيها على قسمين :
الأوّل : الاستدلال بالآثار الحسيّة والطبيعية على شيء مادي ولكنه ليس بمحسوس للمستدلّ في ظرف إحساس الآثار وإدراكها. فالآثار الباقية من أصحاب الملاحم والدواوين قابلة للاستدلال بها على أنّه كان هناك نوابغ في الشعر والأدب نظموا هذه القصائد والدواوين ، كما هو الحال في الآثار العلمية الموروثة.
فهذه الآثار أعني الدواوين والكتب ، محسوسة ، ولكن مؤلفيها ليسوا محسوسين في زمان إدراك الآثار ، ولكنها بالذات أُمور محسوسة في ظرفها. فيستدلّ ـ إذن ـ بالمحسوس في الآن ، على المحسوس بالذات ، استدلالاً آيوياً.
الثاني : الاستدلال بالمحسوس على غير المحسوس بالذات ، وهذا الاستدلال بإتقان المصنوع على علم الصانع وقدرته ، وبجماله على ذوقه وبراعته. ومن هذا أيضاً ، الاستدلال بالآيات الموجودة في عالم الكون على أنّ له صانعاً عالماً قادراً قام بتنظيم الكون وتنسيقه وفق قوانين وسنن تحيّر العقول.
والماديون يقرّون بكلا الاستدلالين ولا يفرّقون بينهما في حياتهم العملية. فهم كما يستدلّون بالكتاب الفلسفي على وجود فيلسوف ألفه وكتبه ، يستدلّون بأفعال الرجل وتصرفاته ، على روحياته ونفسياته من حسن وسوء ، وصفاء وخبث ، وإخلاص وخيانة ، مع أنّ حسن السريرة وسوءها ، وصفاء النفس وخبثها ... كلها أُمور غيبية غير مرئية ولا واقعة في أُفق الحواس.