شك أنّ العلوم الطبيعية تفتحت ونضجت في ظلال التجربة ولولاها لشلّت عجلة العلوم ولم تبلغ هذا الحدّ الّذي أدهش العقول وحيّر الألباب. وأمّا كون التجربة هي المسلك الوحيد لكشف صحة العلوم ، وانقطاع كل طريق آخر إلى ذلك فهو كلام زائف ، لما ستقف عليه من أنّ الإنسان يملك علوماً كثيرة ضرورية قبل شروعه بتجاربه.
وثانياً : إنّ نفس هذه النظرية ، أي كون التجربة هي المعيار ، لم تثبت بالتجربة ، فيجب على القائلين بهذه النظرية البرهنة عليها إمّا بتجربتها ، وهو غير معقول ، أو بادّعاء أنّها قضية بديهية لا تحتاج إلى الدليل ، وهو ما نريده.
وثالثاً : لا ملازمة بين صحة النتيجة في مقام العمل ، وصحة الفرضية ، بل قد تكون النتيجة صحيحة والفرضية باطلة ، فإنّ النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق ، فصحة الفرضية دليل على صحة النتيجة ولا عكس ، نظير قولنا كل جَوْز مدوّر ، وليس كل مدوّر جَوْز.
وإن شئت قلت : هؤلاء استدلّوا بوجود الأخصّ على وجود الأعمّ ، نظير الاستدلال بوجود كائن حي في البيت على وجود إنسان ، وهذا خاطئ.
والشهود والعيان ينفيان تلك الملازمة ، وهاك بعض النماذج :
أ ـ إنّ نظرية بطليموس الّتي سادت الأوساط العلمية قرابة خمسة عشر قرناً من الزمن ، كانت مبنية على مركزية الأرض وحركة الشمس والأفلاك حولها. ولكن هذه النظرية بطلت من أساسها في الحضارة الحديثة وتبيّن أنّ الأمر على العكس ، مع أنّ النتائج الّتي كان يستخلصها المنجمون والفلكيون ، اعتماداً على هذه الفرضية الباطلة ، صحيحة لا غبار عليها ، نظير تعيين قواعد الخسوف والكسوف وعلاماته وأوقاته الدقيقة ، وأوضاع الهلال ودورة القمر الشهرية ، واتّجاه القبلة ، وخطوط الطول والعرض وغير ذلك.
ب ـ كان السائد عند العلماء أنّ العناصر المكوّنة للكون أربعة : الهواء والتراب والماء والنار. والعناصر الأساسية الّتي يتشكل منها الطبع البدني الإنساني أربعة أيضاً : الدم والبلغم والصفراء والسوداء. وكان الأطباء يعالجون بهذه