ومع ذلك كلّه فقد كشفت عنه الأبحاث النفسية ، ودلّت عليه المشهودات الحسيّة من أفعال الإنسان في الحالات المختلفة الّتي ذكرناها. أفيصح بعد هذا أن يقال إنّ التعرّف على الذهن الباطن غير ممكن بحجة أنّه غير ملموس ولا محسوس ولا واقع في إطار التمثيل والاستقراء والتجربة؟ بل يكفينا في ذلك أنّ الأثر يكشف عن وجود المؤثر ، والآية تدلّ على ذيها.
ولا خصوصية لهذا المقام ، بل جميع المغيبات من هذا القبيل ، نكشفها بآثارها وآياتها.
وممّا يثبت أنّ للإنسان عقلاً باطناً أنّه ربّما يتأثر بعوامل خارجية ، خارجة عن إطار العقل الواعي ، خصوصاً إذا عطل العقل الواعي بالتنويم الصناعي أو المغناطيسي الّذي كشفه الدكتور مسمر (١) الألماني في القرن الثامن عشر ، وجاهد هو وأتباعه مدى قرن كامل من الزمن في سبيل إثباته. وقد نجح في اختباراته ، فاعترف العلماء به علمياً ، وها نحن نضع بين يديك هنا تجربة واحدة من تجارب التنويم الصناعي تقرّب إليك البعيد ، نقلها الأستاذ المصري الزرقاني في مناهل العرفان ، قال :
«هذه التجربة رأيتها بعيني ، وسمعتها بأُذني ، على مرأى ومسمع من جمهور مثقف كبير. قام المحاضر وأحضر الوسيط ، وهو فتىً فيه استعداد خاص للتأثر بالأستاذ. نظر الأستاذ في عيني الوسيط نظرات عميقة نافذة ، وأجرى عليه حركات يسمونها سحبات ، فما هي إلّا لحظة حتّى رأينا الوسيط يغط غطيط النائم ، وقد انتقع لونه ، وهمد جسمه ، وفقد إحساسه المعتاد ، حتّى لقد كان أحدنا يخزه بالإبرة وخزات عدّة ، ويخزه كذلك ثانٍ وثالث ، فلا يبدي الوسيط حراكاً ، ولا يظهر أي عرض لشعوره وإحساسه بها. وحينئذٍ تأكّدنا أنّه قد نام ذلك النوم الصناعي أو المغناطيسي وهنالك تسلّط الأستاذ على الوسيط يسأله : ما اسمك؟. فأجابه باسمه الحقيقي ، فقال الأستاذ : ليس هذا هو اسمك ، وإنّما اسمك كذا (وافترى عليه اسماً آخر) ، ثمّ أخذ يقرر في نفس الوسيط هذا الاسم الجديد الكاذب ، ويمحو منه أثر الاسم القديم الصادق بواسطة أغاليط
__________________
(١) فردريك أنطون مسمر (١٧٣٤ ـ ١٨١٥ م).