شاهدت ، أنا مشيت ، أنا فكّرت ، أنا أذعنت. فلا مناص ـ حينئذٍ ـ من الاعتراف بأنّ هناك ، وراء هذه المحمولات ، موضوعاً واحداً ، تحمل عليه جميع هذه المحمولات ، حتّى يصحّ هذا الإسناد.
ولو كان المشار إليه هو نفس التصورات والأفعال المتراكمة ، لوجب أن تكون هذه القضايا محمولات بلا موضوع ، لأنّ القائل لا يعترف إلّا بالفعل كالرؤية ، والتفكير و ... ، أو يلزم أن يكون الموضوع نفس المحمول ، لأنّه إذا كانت الأفعال المتلاحقة هي نفس «أنا» ، يكون الموضوع مفهوماً منتزعاً من تلك الأفعال ، وكلا الأمرين ـ أي كون القضية بلا موضوع ، أو كون الموضوع نفس المحمول ـ خاطئ بالوجدان والبرهان.
وبعبارة أُخرى : إذا صحّت نظرية الحسيين القائلة بأنّ شخصية الإنسان ليست سوى نفس أفعاله ، لزم من ذلك أن يكون الموضوع نفس المحمول ، بمعين أن يكون المنسوب إليه نفس المنسوب. وهذا ما ذكرنا من أنّه يستلزم أن تكون القضايا فاقدة للموضوع ، أو تكون نفس المحمول. والكل باطل ، لأنّ المحمول غير الموضوع ، والمنسوب إليه غير المنسوب. وهذا خير دليل على وجود حقيقة مستقلة عن الأفكار والأفعال ، هي الشخصية الإنسانية المعبّر عنها ب «أنا» ، أو النفس الإنسانية» (١).
وهذا كما يدلّ على وجود مصدرٍ لهذه الأفعال ، يدلّ على أنّه غير البدن ، لأنّ المفروض أنّ ما يصدر من الأعضاء ـ كالرؤية والتفكير ـ يسند إليه أيضاً ، لا إلى البدن. وهذا يكشف عن أنّه غير البدن ، وعن أنّه خارج عن إطار الحسّ والمادّة.
وهكذا إذن ، فالموضوعات المجرّدة ، تماماً كالموضوعات المادية ، واقعة تحت أفق المعرفة ، عبر النوافذ الّتي يمكن الإنسان بها التطلع إلى ما وراء عالم المادة.
__________________
(١) وقد اكتفينا هنا بهذا البرهان. وذكرنا ثلاثة براهين أخرى على تجرد النفس في بحث المعاد من «الإلهيات» ، تحت عنوان تجرّد الروح الإنسانية ، وكلّها براهين علمية يعتمد عليها الفلاسفة وعلماء النفس. ونشير إلى رءوسها :
أ ـ ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغيّرات الجسدية.
ب ـ علم الإنسان بنفسه مع غفلته عن بدنه.
ج ـ عدم انقسام الذات الإنسانية.