وكانت النتيجة أن نحا بعض الغربيين منحى مأساوياً ، إذ اعتقدوا مساواة الوجود للمادة في مقام الإثبات ، فكل موصوف بالوجود معناه أنّه موجود مادي ، ولا شيء سوى ذلك.
التحليل : إنّا لا ننكر على التجربة فضلها العظيم على الإنسانية ، ومدى خدمتها في ميادين العلم ، وإنّما نريد أنْ يَفْهَمَ هؤلاء التجربيون أنّ التجربة ليست هي المقياس المنحصر للأفكار والمعارف أولاً ، وأنّ التجربة بذاتها محتاجة إلى مقياس عقلي حتّى يتوسع حكمها على ما لم يجرّب ثانياً ، وإليك البيان :
أ ـ إنّ لجهاز التجربة حقّ الإثبات لا حقّ النفي. فلو رأينا بالتجربة أثراً من الشيء ، نستكشف أنّه موجود. وأمّا إذا لم نر منه أثراً ، فليس لنا حقّ نفي وجوده ، وذلك لأنّ التجربة إنّما يصحّ لها أن تحكم بالنفي والإثبات في موضوع يناسبها ويقع في إطارها. وأمّا الأشياء الروحانية ، الخارجة عن إطار المادة ـ على الفرض ـ فليس لجهاز التجربة نفيها ، إذ لو كانت موجودة لما أمكنها الدخول تحت أجهزة التجربة المخبرية.
فهذه الأجهزة المادية الضيقة ، إنّما يمكنها القضاء في الأمور المادية ، دون الخارج عنها ، فإنّها عاجزة عنها.
ب ـ إنّ التجربة بنفسها ، لا تعطي اليقين والجزم ، فإنّها لا تزيد عن إجراء عملية على موضوعات خاصة ، فمن أين لها إسراء الحكم على جميع أفراد طبيعة واحدة؟ ، ولا مناص في ذلك ، من ضم حكم عقلي إلى هذه العملية حتّى يستنتج المجرّب حكماً عاماً ، دائماً ، سائداً على ما سبق ، وظرفِ الحكم ، وما يأتي. ولذلك عند ما وقف «جان استوارت ميل» على هذا الإشكال ، ذهب إلى أنّ التجربة والاستقراء مبنيان على أصل مسلّم عند جميع العلماء ، وهو أنّ الطبيعة ـ في كل زمان ومكان ـ متحدة الحقيقة والوظيفة والأثر. ولأجل ذلك إذا أجرينا التجربة في مكان وزمان خاصّين ، صحّ تطبيق الحكم المستنتج على ما لم نره من مصاديق الطبيعة (١).
__________________
(١) الفلسفة العلمية : ١١٠.