ولكن الروحيات الخبيثة والطيبة ليست حصيلة العمل وحده ، بل للإنسان منذ ولادته إلى أن يدرج في كفنه ، ملكات عامة وفطريات سالمة ، توجد بوجوده ، وتنشأ وتترعرع معه ، وهي تتلخص في تلك الأبعاد العامة الّتي تقدمت إليها الإشارة. فكان غلو هؤلاء في مجال العمل نتيجةً حتمية لإنكارهم الروحيات الفطرية المختمرة في وجود الإنسان.
فالإنسان الفطري هو الإنسان الّذي حافظ على فطرته ، ويمشي في حياته على ضوئها. ومن مشى على خلاف ما تقتضيه فطرته ، فقد مسخ إنسانيته. فالحياة القائمة على الكذب والخداع ، والظلم والإفساد ، بل التجرّد والعزوبية ، حياة مخالفة لما تطلبه الفطرة الإنسانية. وقس على ذلك كل طارئ في حياة الإنسان ، فهو إمّا على خطّ الفطرة أو منحرف عنه.
وأخيراً نقول : إنّ الوجوديين لاحقاً ـ حرصاً على حفظ الحرية ـ أنكروا الفطريات والأبعاد الروحية الثابتة في وجدان الإنسان منذ وجوده على هذه البسيطة. وكأنّهم زعموا أنّ هذه الفطريات سوائق تدفعه إلى جانب خاص ، وهذا ينافي حرية الإنسان وكون شخصيته وذاتياته نتيجة العمل.
ولكن خفي على أولئك أنّ للإنسان ماهيات عامة وخاصة. فالأُولى هي الماهيات المشتركة بين جميع أفراد الإنسان ، سواء أفسرناها بالحيوان الناطق أم بما ينضم إليه من الأبعاد الروحية العامة الّتي كشف عنها علماء النفس وقررها الدين باسم الفطرة ، ولا يشذّ إنسان عنها أبداً ، فإنّ كل فرد مذ يفتح عينيه على الحياة ، يمتلك هذه الصفات العامة ، ولا تزال تتكامل يوماً فيوماً.
وأمّا الماهيات الخاصة فهي الملكات والروحيات الّتي يكتسبها الإنسان عن طريق العمل ، حسب دءوبه وتمرّسه ، فتحصل في نفسه ملكات لم تكن موجودة يوم جاء إلى الحياة.
فالوجوديون الذين يذهبون إلى أنّ وجود الإنسان خالٍ ـ مُذْ ولد ـ من كل حدّ وقيد، وأنّه إنّما يكتسب هذه القيود بالعمل ، خفيت عنهم الماهيات العامة وحسبوا أنّ الإنسان ذو بُعد واحد فحسب ، هو ما يكتسبه من روحيات وملكات ، في حين أنّها تشكل بُعداً واحداً هو الماهيات الخاصة ، ووراءها ماهيات عامّة غير