أبعد الحدود ، يستحيل عليه أن يبقى محافظاً على أفكاره واعتقاداته الدينية وقيمه الروحية.
إنّه كلّما ازداد توغلاً في المفاسد ، ازداد بعداً عن الاعتقاد بالعوالم الغيبية ، لأنّ ذلك الاعتقاد يمنعه عمّا يطلبه من الفساد والتمادي في العصيان (١) ، وهكذا يتحرّر عن تلك المعتقدات شيئاً فشيئاً ، حتّى يَنسَلِخَ منها ، وينبذها وراءه ظِهْريّاً.
وإلى هذه الظاهرة تشير الآية الكريمة بقولها : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢) ، فجرّهم اقتراف المساوئ ، وركوب المفاسد ، إلى تكذيب آيات الله وشرائعه وأنبيائه.
وكما تؤثّر المادية الأخلاقية في ذوبان عقيدة المرء شيئاً فشيئاً ، وانحلاله من الاعتقاد بالرسالات السماوية ، ليصبح في المآل ماديّاً في تفكيره ، كذلك تكون صادّة عن حصول الاعتقاد من بَدْء الأمر ، وتكون مانعة عن نفوذ نور البرهان والدليل إلى القلب ، لما يدركه ذاك الإنسان ـ في صميم ذاته ـ من أنّ الخضوع لمفاهيم البراهين والأدلة ، لا ينسجم مع ما يطلبه من الانغماس في الشهوات ، وما هو واقع فيه من الفساد والانحراف. ولعلّه إلى هذا يشير قوله سبحانه : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ* يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (٣).
وبذلك تصبح المادية الأخلاقية رافعة للعقيدة تارة ، وصادّة عنها أُخرى ، فالأول في المعتنقين للأُصول الغيبية إذا جنحوا إلى المعاصي ، والثاني في الناشئين في أحضان المجتمعات الغارقة في الفساد إذا فوجئوا بمعلّمٍ مُصلحٍ يريد أن يهديهم ويقنعهم ، بالبرهان والدليل ، فيرفضون البراهين ومنطق العقل ، ويُوصدون بذلك باب المعرفة أمامهم.
* * *
__________________
(١) وتلقي المعاصي حُجُباً على قلوبهم تعميها عن معرفة الحق ، يقول تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين : ١٤.
(٢) الروم : ١٠.
(٣) القيامة : ٤ و ٥. والمراد من فجوره أمامَه ، فجوره فيما يستقبل من أيام عمره.