عرفت أنّ أصول اليقينيات ستة ، هي : الأوليات ، والمشاهدات ، والتجربيات ، والحدسيات ، والمتواترات ، والفطريات. كما عرفت أنّ كلَّ العلوم الكسبية لا بُدّ أن تنتهي إليها ، وتعتمد عليها ، وإلّا لزم الدور والتسلسل.
وعلى سبيل المثال : لا تجد أحداً من البشر ينكر امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وامتناع اجتماع المتضادين في محلّ واحد. حتّى أنّ السوفسطائي نفسه ، الشاكّ في كل شيء ، لا يشك في امتناع اجتماع النقيضين ، بشهادة أنّه يصرّ على ما يتبنّاه من أنّ «الصور العلمية لا تكشف عن الواقع قطعاً» ، وهو في الوقت نفسه لا يقول بصحة نقيض هذه القضية ، وهو أنّ الصور العلمية تكشف عن الواقع الموضوعي كشفاً تامّاً. وهذا دالّ على اعترافه من حيث لا يشعر بإمكان درك واقع من الواقعيات هو ما يتبنّاه (١). هذا نموذج من باب الحكمة النظرية.
وهكذا في مجال الحكمة العملية ، فإنّ فيها مسائل أُصولية ضرورية أصفق على صحتها عامّة العقلاء ، فلا تجد ذا لُبّ يقبّح الإحسان ويحسّن الظلم ، كما أنّه ليس هناك من ينكر قبح خيانة الأمانة ومجازاة المحسن بالإساءة ، إلى غير ذلك من الأُصول الثابتة في العقل العملي (٢).
وإثبات هذا المقدار من العلوم اليقينية الّتي لا يختلف فيها اثنان كاف في
__________________
(١) قد يقال : إنّ الماركسيين يصححون اجتماع الضدين ، بل اجتماع النقيضين ، فكيف تكون هذه القضية مورد اتّفاق.
ولكن الجواب يظهر ممّا حُقِّق في الفلسفة الإلهية من أنّ لامتناع اجتماع النقيضين والضدين شروطاً ، لو روعيت يكون الحكم بالامتناع بديهياً. والماركسية تارة تلغي الشروط اللازمة للحكم بالامتناع ، فتصحح اجتماعهما ، ولا مانع منه. وأُخرى تضع التضاد الفلسفي مكان التضاد المنطقي ، والمحال هو الثاني لا الأوّل ، فإن التضاد الفلسفي هو اجتماع عناصر طبيعية وتفاعلها فيما بينها لتنتج نوعاً طبيعياً جديداً ، وهذا النوع من التضاد هو عماد بقاء الطبيعة ، ولم يقل أحد بامتناع اجتماع أطرافه ، والممتنع هو التضاد المنطقي الّذي يبحث عنه في باب التقابل. قال الحكيم السبزواري :
وإنّ من غيريّةٍ تقابلُ |
|
عرّفه أصحابنا الأفاضلُ |
يمنعِ جمعٍ في محلٍ قد ثبَت |
|
من جهةٍ في زمنٍ توحَّدت |
(٢) سنثبت في مباحث الحكمة الإلهية أنّ الصحيح في الحسن والقبح الذاتي لبعض الأفعال ، هو أنّ العقل بنفسه ، يدرك بملاحظة الفعل بما هو هو ، حُسْنَهُ أو قُبْحَهُ. وليس صحيحاً أن حسنها وقبحها من المشهورات ، كما هو المشهور.