المواهب الحسيّة والعقلية ـ على التعرف عليها تعرّفاً كاملاً على حدّ يصحّ أن يقال معه إنّ الموجود في الخارج هو بعينه الحاصل في الذهن ، والتفاوت بين الموجودَيْن هو في كيفية الظهور والوجود. وبعبارة أُخرى : إنّ المعلوم الذهني يتحد ماهية مع المعلوم الخارجي ، وإن كان يختلف عنه في مرتبة الوجود ، فالنار في الذهن نفس النار في الخارج ماهيةً ، غاية ما في الأمر أنّهما يختلفان في كيفية الظهور. ولأجل ذلك تكون النار الخارجية محرقة دون الذهنية.
وعلى هذا الأساس عرّفوا الفلسفة بأنّها العلم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية.
وليس المراد من قولهم «بقدر الطاقة البشرية» ، أنّ كل إنسان ينال من الخارج والواقع حسب استعداده وقابليته ، فالشيخ الرئيس بما كان له من المواهب الكبيرة يدرك النار الخارجية على حسب ما يناسب قابليته ، في حين أنّ الإنسان العادي يدركها بنحو آخر حسب لياقته الذهنية فتختلف كيفية الإدراك باختلاف الاستعدادات ، ويتفاوت تجلّي الأشياء في الذهن حسب تفاوت المواهب الفكريّة.
لا ، ليس ذلك هو المراد ، بل المراد هو تفاوت الأفراد في المعرفة من حيث الكميّة ، لأنّ العالم مليء بالموجودات والسنن الحاكمة عليها ، وليس في وسع كل إنسان أن يحيط بها ، بل كل إنسان يتعرّف على قسم وجانب خاص من الواقعيات حسب إمكاناته وظروفه. فربّ عالم يقف على أشياء لا يقف عليها غيره ، وإن كانا فيما وقفا عليه متّفقيْن من حيث المعرفة ، كما عرفت في حديث النار.
وقد أصرّ فلاسفة الإسلام على وحدة المعلوم الذهني والخارجي ، وعلى كون العلم الصحيح معرباً عن صميم الواقع ، على وجه عرّفوا دور الفلسفة بقولهم : إنّها تُصَيِّرُ الإنسان عالماً (بالفتح) عقلياً مضاهياً للعالَم العيني. بمعنى أنّ ما يقف عليه من المعارف نفس الواقع ، بتفاوتِ أنّ ما عنده وجود عقلي للأشياء ، وما في الخارج وجود عيني لها ، ولا يختلفان وراء ذلك قيد شعرة.
هذا إلمام إجمالي بمنهج اليقين ، وقد تبنّاه عامة فلاسفة الإغريق والإسلام وتبعهم جماعة من الغرب. ولأجل إلمام الباحث بنظرياتهم حول قيمة العلم والمعرفة ومدى كشفه ، نبحث فيما يلي نظريات أبرز فلاسفة هذا المنهج.