وهذا الفرد المجرّد يعبّر عنه بالموجود المثالي ورَبّ النوع ، لكون وجوده أمثل وأكمل من الموجودات الماديّة ، كما أنّ له شأناً بتربية أفراده ، فأشبه أن يكون ربّها المدبر.
وقد وقعت هذه النظرية مَثاراً للبحث والنقاش ، فبين قائل بها ، آخذٍ بظاهرها وحرفيّتها من غير تصرف ولا تأويل ، كما عليه الإشراقيون ، فقالوا : يجب أن يكون لكل نوع من الأنواع البسيطة الفلكية (١) والعنصرية ، ومركباتها النباتية والحيوانية ، فرد مجرّد عن المادة ، مُعْتَنٍ في حق أفراد ذلك النوع ، وهو صاحب ذلك النوع وربّه. واستدلّوا على ذلك بوجوه (٢).
وبين مؤول لها كالشيخ الرئيس ، فقال بأنّ المراد من الفرد المجرّد لكل نوع هو المفهوم الكلي الّذي يشترك فيه الأشخاص ويبقى مع بطلانها. وبعبارة أُخرى : الماهية المجرّدة عن اللواحق ، القابلة للمتقابلات.
فأصبح الشيخ وقاطبة المشائيين منكرين للمثل بالمعنى الّذي يثبته الإشراقيون ، ودارت بينهم مناظرات ومساجلات ، إلى أن انتهى الأمر إلى صدر المتألهين ، فأيّد نظرية المُثُل بحرفيتها ، وقال : «الحريّ أن يُحمل كلام الأوائل على أنّ لكل نوع من الأنواع الجسمانية فرداً كاملاً في عالم الإبداع هو الأصل والمبدأ ، وسائر أفراد النوع فروعٌ ومعاليلٍ وآثار له. وذلك الفرد (المثالي) بتمامه وكماله ، لا يفتقر إلى مادة ولا إلى محلّ متعلّق به ، بخلاف هذه ، فإنّها لضعفها ونقصها ، مفتقرةٌ إلى مادة في ذاتها أو في فعلها. وقد تحقق في محله جواز اختلاف أفراد نوع واحد كمالاً ونقصاً».
وأضاف : «وما يُرَدُّ عليه من أنّ الحقيقة الواحدة كيف يقوم بعضها بنفسه وبعضها بغيره ، ولو استغنى بعضها عن المحل لاستغنى الجميع ؛ ليس بصحيح مطلقاً ، فإنّ استغناء بعض الوجودات عن المحلّ إنّما هو بكماله ، وكمالُه
__________________
(١) ذكروا الفلكية لأنّ الأفلاك كانت عندهم ذات حياة ونفس ، فكان لكل فلكٍ فردٌ آخر مجرد له شأن بتدبيره.
(٢) لاحظ للوقوف على تلك الوجوه : الأسفار : ٢ / ٥٣ ـ ٦٢.