وكلا قسمي التصورات يشتركان في أنّ العقل لا ينالهما من دون إعمال الحسّ والاتّصال بالخارج. فلو كان الإنسان فاقداً لعامّة حواسه لما قدر على تصور شيء من التصورات البديهية حتّى الوجود والعدم. كما أنّه لو كان فاقد الصلة بالخارج لما قدر على تجريد الجزئيات والأخذ بالقدر المشترك. وهذا اعتراف من الفلاسفة المسلمين باعتبار الحسّ والعقل في مجال المعرفة الإنسانية.
وكما أنّ التصورات تنقسم إلى بديهية ونظرية ، فالتصديقات أيضاً مثلها. فالتصديق بامتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما ، من التصديقات البديهية. كما أنّ التصديق بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين ، من التصديقات النظرية ، والكل يناله العقل بعد الاتّصال بالخارج وإعمال الحواس قبل تصديقه بالنسبة الموجودة فيها. أمّا في التصديقات البديهية فواضح ، وأمّا في القضايا النظرية ، فإنّ العقل يستكشف تلك القضايا النظرية المجهولة عن طريق القضايا البديهية بعملية فكرية خاصة ، مستفيداً ممّا ناله بالحسّ. مثلاً : إن قولنا : المادة حادثة ، الأرض كرويّة ، الحركة تسبب الحرارة ، الدور والتسلسل ممتنعان ، الفلزات تتمدد بالحرارة ، زوايا المثلث تساوي ١٨٠ درجة ، المادة تتحول إلى طاقة ؛ كلُّها معارف تُعَدّ في هذه الأعصار من اليقينيات ، غير أنّ النفس لا تؤمن بصحتها عند سماعها لأول وهلة ، وإنّما يحصل لها ذلك في ضوء معلومات سابقة بديهية ومكتسبة يجمعها العقل بعملية وجهد فكري ، ليكتسب بعده تصديقاً وعلماً جديداً.
__________________
ومن القسم الثاني المفاهيم العامة الّتي أُشير إليها في المتن ، فليس لها مصاديق في الخارج ، وإنّما لها مناشئ انتزاع وانتقال فمفهوم العدم ـ مثلاً ـ من المفاهيم العامة ، يصنعه الذهن بعد الاتّصال بالخارج ، ولكن ليس له مصداق فيه ، لأنّ الخارج يساوق الوجود والعينيّة ، والعدم بطلان محض ، وإنّما ينتقل الذهن إليه بعد عمليات خاصة.
ومثله الضرورة والإمكان والامتناع ، فليس في الخارج شيء محسوس نسميه بأحدها ، وإنّما هي مفاهيم يصنعها الذهن بعد ملاحظة القضايا الخارجية ، كحتمية كون الأربعة زوجاً ، وحتمية عدم كونها فرداً ، فينتقل من تصور هذه القضايا إلى صنع مفهوم الضرورة والامتناع. فلأجل ذلك قلنا إنّ التصورات ليست على وزان واحد ، بل هي بين ما يكون له مصداق ، وما يكون له منشأ للانتزاع والانتقال من دون أن يكون له مصداق.
وأمّا عدم كون الوجود والوحدة الّتي تساوقه ممّا له مصاديق في الخارج ، فيحتاج إلى بيان آخر قرره الحكماء عند البحث عن أحكام الوجود الخارجي والذهني.