في النفس الإنسانية ، تظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان ، واحتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ، فإنّ مثل هذه ليست علوماً فعلية وإدراكات حاضرة حتّى تكون منفية بقوله تعالى: (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).
فسلسلة المعلومات والإدراكات الفطرية المودوعة في النفس ، حاصلة فيها بالقوة حين ولادة الإنسان ، ثمّ تخرج إلى الفعلية ، وتتكامل بتكامل وجوده ، وتتفتح تدريجياً باتّصاله بالخارج عبر أدوات المعرفة(١).
فكل ما تقدم يدلّ على أن الإسلاميين من الفلاسفة كانوا رجالاً واقعيين موضوعيين ، يتبنون منهج الجزم ويستخدمون أدوات المعرفة كلٌّ منها في مجاله ، مقتفين في ذلك بعد كتابهم السماوي المرشد ، أثر المعلم الأول.
ومن أبدع أساليبهم في تحليل المعرفة ، تقسيمهم التصورات والتصديقات إلى بديهيات ونظريات.
فهناك تصورات بديهية لا يحتاج العقل في دركها إلى أَزيد من تصور موضوعاتها ، كمفاهيم الوجود والعدم والوحدة والكثرة والضرورة والإمكان والامتناع ، وسائر ما يسمونه في الفلسفة بالأُمور العامة.
وهناك تصورات نظرية تنالها النفس بعد إعمال القوة الفكرية ، كالمفاهيم الكلية من الإنسان والفرس والشجر ونحوها. فإنّ النفس تنالها بعد إدراك أَفراد كثيرة لذلك المفهوم الكليّ عن طريق الحسّ ، ثمّ يقوم العقل بعد ورود صورها إلى الذهن بتجريدها من المشخِّصات أولاً ، ثمّ بالأخذ بالقدر المشترك الّذي يعمّ جميع الأفراد(٢).
__________________
(١) لاحظ مفاهيم القرآن : ١ / ٧٣ ـ ٧٤.
(٢) نعم ، ليست التصورات على وزان واحد ، وإن كانت كلها تشترك في أنّ النفس تنالها من الخارج بعد اتّصالها به بالحسّ. بل تفترق إلى قسمين ، فإنّ لبعضها مصاديق في الخارج ، ولبعضها الآخر مناشئ انتزاع.
فمن القسم الأول ، الإنسان والفرس والشجر ونحوها ، فإنّ النفس تنتزع من الجزئيات الخارجيّة ، بعد تجريدها من الخصوصيات ، مفهوماً مشتركاً يسمى مفهوماً كليّاً. وكلّما تصور هذا المفهوم الكلي ، انتقل إلى مصاديقه وجزئياته ، فيقول هذا إنسان وذاك حيوان وذلك شجر.