شيء يجب أن يقلب رأساً على عقب تماماً ، وأن أبدأ من أساس جديد إذا شئت أن أقرر شيئاً راسخاً وباقياً» (١).
ويستمر ديكارت في تأكيد هذا الشك فيقول : «إنّي أفترض إذن أن كل الأُمور الّتي أُشاهدها هي باطلة ، وأتصور أنّه لا يوجد عندي أي حسّ ، وأتصور أنّ الجسم والشكل والامتدادات والحركة والمكان ، ليست إلّا تخيلات من صنع عقلي. فما ذا عسى أن يُعَدّ حقيقياً ، ربما إنّه لا شيء في العالم يقيني».
ثمّ يقول : «من يدريني : لعلّ هناك شيئاً مختلفاً عن تلك الأشياء الّتي حسبتها غير يقينية ، شيئاً لا يمكن أبداً الشك فيه. ألا يوجد إله أو قوّة أُخرى تصنع في عقلي هذه الأفكار؟» ... «من أين أعلم أنّه ليس من خادع يخدعني بكل ما أوتي من حيلة وقوّة في فكري وتصوري ، فيخيل لي المعدوم موجوداً ، أو بالعكس» (٢).
فهو يقول ـ بعبارة أُخرى ـ : من الجائز أن أكون واقعاً تحت تأثير قوّة تهيمن على وجودي وعقلي ، وتحاول خداعي وتضليلي ، فتوحي إليّ بأفكار مقلوبة عن الواقع وإدراكات خاطئة. ومهما كانت هذه الأفكار والإدراكات واضحة ، فلا استطيع أن استبعد هذا الفرد الّذي يضطرني إلى اتّخاذ الشكّ مذهباً مطرداً.
وعلى ذلك ، فالشك المنهجي لديكارت يبتني على احتمالين :
١. احتمال بطلان كل ما يعتقده صحيحاً فعلاً ، كما بَطَلَ ما كان يعتقده صحيحاً سابقاً.
٢. احتمال كونه واقعاً تحت تأثير قوّة كبرى تخدعه وتضلله.
وهكذا ، حاق به الشكّ في كل ما يتصور ويتخيل ، وكاد ألمه أن يهلكه ، حتّى وصل إلى قضية يقينية لم يقدر أن ينفيها عن نفسه ، أو يشك فيها ، ألا وهي أنّه يفكر ، وذلك لأنّه مهما شكّ في الأشياء ، لا يشكّ في شكّه ، فشكّه أمر بديهي له ، وليس الشكّ إلّا التفكير ، وليس خارجاً عن إطاره.
__________________
(١) نشرة آدم وتانري : ٧ / ١٧ ، على ما في موسوعة الفلسفة : ١ / ٤٩٣.
(٢) المصدر السابق.