وغيره ممّا يتوقّف فيه معلوما له ، ومثل هذه الأمور الظاهرة المنتشرة لا يرجع عنها بأخبار الآحاد خاصة.
فأما القرآن نفسه فدالّ على ذلك ، وهو قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) ولو كان أنزل جملة واحدة لقيل في جوابهم قد أنزل على ما اقترحتم ، ولا يكون الجواب كذلك (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً).
وفسّر المفسّرون كلّهم ذلك بأن قالوا : المعنى إنّا أنزلناه كذلك أي متفرّقا يتمهل على أسماعه ، ويتدرج إلى تلقّيه.
والترتيل أيضا إنّما هو ورود الشيء في أثر الشيء ، وصرف ذلك إلى العلم به غير صحيح ؛ لأنّ الظاهر خلافه.
ولم يقل القوم لو لا أعلمنا بنزوله جملة واحدة ، بل قالوا : لو لا أنزل إليك جملة واحدة ، وجوابهم إذا كان أنزل كذلك أن يقال : قد كان الذي طلبتموه ، ولا يحتج لإنزاله متفرّقا بما ورد بنزوله في تمام الآية.
فأمّا قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فإنّما يدلّ على أنّ جنس القرآن نزل في هذا الشهر ، ولا يدلّ على نزول الجميع فيه.
ألا ترى أنّ القائل يقول : كنت أقرأ اليوم القرآن ، وسمعت فلانا يقرأ القرآن ، فلا يريد جميع القرآن على العموم ، وإنّما يريد الجنس.
ونظائره في اللغة لا تحصى ، ألا ترى أنّ العرب يقول : هذه أيّام آكل فيها اللحم ، وهذه أيام آكل فيها الثريد ، وهو لا يعني جميع اللحم وأكل الثريد على العموم ، بل يريد الجنس والنوع.
وقد استقصيت هذه النكتة في مواضع كثيرة من كلامي.
فأمّا قوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (١) فلا ندري من أيّ وجه دلّ على أنّه أنزل جملة واحدة وقد كان أنّه رحمهالله يبيّن وجه
__________________
(١) سورة طه ، الآية : ١١٤.