بعدك» ، تريد ولا أطيع أحدا سواك. ولا تريد بلفظة «بعد» المستقبل ، وهذا وجه قريب.
وقد ذكر أيضا في هذه الآية وممّا لم يذكر فيها ممّا يحتمله الكلام ، أن يكون عليهالسلام إنّما سأل ملك الآخرة وثواب الجنّة الّتي لا يناله المستحقّ إلّا بعد انقطاع التكليف وزوال المحنة ، فمعنى قوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي لا يستحقّه بعد وصولي إليه أحد من حيث لا يصحّ أن يعمل ما يستحقّ به لانقطاع التكليف ؛ ويقوّي هذا الجواب قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي) وهو من أحكام الآخرة.
وليس لأحد أن يقول : إنّ ظاهر الكلام بخلاف ما تأوّلتم ؛ لأنّ لفظة (بَعْدِي) لا يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب ؛ وذلك أن الظاهر غير مانع من التأويل الّذي ذكرناه ، ولا مناف له ؛ لأنّه لا بدّ من أن تعلّق لفظة (بَعْدِي) بشيء من أحواله المتعلقة به ، وإذا علّقناها بوصوله إلى الملك كان ذلك في الفايدة ومطابقة الكلام كغيره ممّا يذكر في هذا الباب. ألا ترى أنّا إذا حملنا لفظة «بعدي» على نبوتي أو بعد مسألتي أو ملكي ، كان ذلك كلّه في حصول الفايدة به يجري مجرى أن تحملها إلى بعد وصولي إلى الملك ؛ فإنّ ذلك ممّا يقال فيه أيضا : «بعدي»؟ ألا ترى أنّ القائل يقول : «دخلت الدار بعدي» و «وصلت إلى كذا وكذا بعدي» ، وإنّما يريد بعد دخولي وبعد وصولي؟ وهذا واضح بحمد الله (١).
ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١].
فإن قيل : فما قولكم في الأمراض والمحن الّتي لحقت أيّوب عليهالسلام أو ليس قد نطق القرآن بأنّها كانت جزاء على ذنب في قوله : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) والعذاب لا يكون إلّا جزاء كالعقاب ، والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا تسمّى عذابا ولا عقابا ، أو ليس قد روى جميع المفسرين أنّ الله تعالى إنّما عاقبه بذلك البلاء لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصّته مشهورة يطول شرحها؟
__________________
(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٣٩.