أمستعبرا يبكي من الهون والبلى |
|
وآخر يبكي شجوه ويئيم (١) |
فإذا لم يكن لهؤلاء القوم الذين أخبر الله عن بوارهم مقام صالح في الأرض ، ولا عمل كريم يرفع إلى السماء جاز أن يقال : فما بكت عليهم السماء والأرض.
ويمكن في الآية وجه خامس ، وهو أن يكون البكاء فيها كناية عن المطر والسّقيا ؛ لأنّ العرب تشبّه المطر بالبكاء ، ويكون معنى الآية أنّ السماء لم تسق قبورهم ، ولم تجد عليهم بالقطر ؛ على مذهب العرب المشهور في ذلك ؛ لأنّهم كانوا يستسقون السحاب لقبور من فقدوه من أعزائهم ، ويستنبتون لمواضع حفرهم الزّهر والرّياض ؛ قال النابغة :
فما زال قبر بين تبنى وجاسم |
|
عليه من الوسميّ طلّ ووابل (٢) |
فينبت حوذانا وعوفا منوّرا |
|
سأتبعه من خير ما قال قائل (٣) |
وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام (٤) ، ومسألة الله لهم الرضوان ، والفعل الذي أضيف إلى السماء ـ وإن كان لا يجوز إضافته إلى الأرض ـ فقد
__________________
(١) حاشية بعض النسخ : «المستعبر : الذى يأتي بالعبرة ، وهي سين الطلب ، و «مستعبرا» ، بدل الجازعين. ويهيم ، أي يصير هائما ، قال الله تعالى : (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ).
(٢) ديوانه : ٦٢. والرواية فيه :
سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم |
|
بغيث من الوسميّ قطر ووابل |
وتبنى وجاسم : موضعان بالشام. وفي حاشية بعض النسخ : «الوسمي : أول المطر ، وهو الذي يأتي في الخريف ، والخريف عند العرب ربيع ، والربيع صيف ، والصيف قيظ».
(٣) حاشية بعض النسخ : «فينبت ، النصب في جواب التمني ، والحوذان : نبت ، يقال له بالفارسية مشكك ، وعوف : نبت أيضا ومنورا ، أخرج النور».
وقال البطليوسي شارح الديوان : «الحوذان والعوف نباتان ؛ إلّا أن الحوذان أطيب رائحة ؛ وأنشد سيبويه هذا البيت بالرفع ؛ ولم يجعله جوبا ؛ أراد : وذلك ينبت حوذانا ، أي ينبت الحوذان على كل حال».
(٤) حاشية بعض النسخ : «قال مولانا «رحمة الله عليه» عن ابن الأعرابي : إن العرب إنّما تستسقي القبور لأنها إذا سقيت وعم القطر أعشب المكان ؛ فحضره القوم للرعي ، وترحموا على الموتى».