منه ، ولو شاهدتموه ـ بأن يزاد في قوى أبصاركم ـ لقلتم : ليس هذا ملكا ، بل هذا بشر ، لأنّه إنّما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقاله ، ولتعرفوا خطابه ومراده ، فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأن ما يقوله حقّ؟ بل إنّما بعث الله بشرا رسولا ، وظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم ، فتعلمون بعجزكم عمّا جاء به أنّه معجزة ، وأن ذلك شهادة من الله تعالى بالصدق له ، ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما يعجز عنه البشر ، لم يكن فيه فائدة لكم ، إنّ ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزا ، ألا ترون أنّ الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز ، لأنّ لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها ، ولو أن إنسانا طار كطيرانها لكان ذلك معجزا ، فالله عزوجل سهّل عليكم الأمر ، وجعله بحيث تقوم عليكم الحجّة ، وأنتم تقترحون العمل الصعب الذي لا حجّة فيه.
ثمّ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : وأمّا قولك : ما أنت إلّا رجلا مسحورا ، فكيف أكون كذلك وأنتم تعلمون أني في صحة التمييز والعقل فوقكم؟ فهل جرّبتم عليّ مذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة جريرة أو كذبة أو خنا (١) أو خطأ من القول ، أو سفها من الرأي؟ أتظنون أنّ رجلا يعتصم طول هذه المدّة بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوّته؟ وذلك ما قال الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٢) إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجّة أكثر من دعاويهم الباطلة التي تبيّن عليك تحصيل بطلانها.
ثمّ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : وأمّا قولك : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ
__________________
(١) الخنا : الفحش في القول. «لسان العرب ـ خنا ـ ج ١٤ ، ص ٢٤٤».
(٢) الإسراء : ٤٨ ، الفرقان : ٩.