لك ذلك من مباحث هذا الكتاب ، فتقف في كل فصل على آراء ونصوص من الإسلامين في مواضيعه المختلفة. وهذا يدلّ على أنّهم لم يكونوا غافلين عن الأهمية البالغة والأساسية ل «أبحاث المعرفة» ، في بناء صرح المعارف البشرية.
وقبل الخوض في المقصود ، وتقليب فصول النظرية ، لا بدّ من الإشارة ـ ولو إجمالاً إلى العلاقة القوية ، والصلة الوثيقة القائمة بين أبحاث نظرية المعرفة ومجمل المعارف البشرية ، فنقول :
إنّ من البواعث الحافزة على البحث في نظرية المعرفة ، أنّ تقييم جميع المناهج الفلسفية والعلمية يتوقف على المنحى والاتجاه المتخذ في هذا العلم. فما لم يتخذ العالم رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في العلم ، لا يصح له الإذعان بأيِّ قانون فلسفي أو علمي.
توضيح ذلك : لا شك في أنّ هناك مناهج فلسفية مختلفة ، لكلٍّ منها نظرية كونية خاصة ، ولها أُصول وقواعد. كما أنّ هناك علوماً تكوينية مدوّنة ، يبحث كل منها عن جانب وناحية من الكون ، كعلم الفلك ، وعلم الحيوان ، وعلم النبات ، وعلم الفيزياء ، وعلم الكيمياء ، وغير ذلك من أبواب العلوم التي أسسها البشر بجهود متوالية عبر القرون. وكلّ هذه المعارف تتصدر بالمعرفة بها ، فيقال معرفة الكون والوجود ، معرفة الأفلاك ، معرفة الحيوان ، معرفة النبات ... الخ. فلا بد قبل الخوض في أي مجال فلسفي أو علمي من الوقوف على واقعية المعرفة الإنسانية ، ورفع الستار عن حقيقتها وبيان حدودها ، وطرق الوصول إليها ، وإلّا فلن يعود شيء من تلك المناهج والعلوم بثمرة. مثلاً :
١ ـ إنّ من المباحث الدارجة في نظرية المعرفة ، البحث عن واقعية ما يريه الذهن ، وأنّه هل هناك وراء الذهن والصور الموجودة فيه عالم فسيح تحكي عنه تلك الصور ، أو أنّ دائرة الوجود منحصرة بالذهن والذهنيات وليس وراءها شيء؟
فالواقعيون على الأول ، والمثاليون على الثاني ، على اختلاف الفريقين في مراتب الإثبات والإنكار.