فما لم تُحَقَّق هذه المسألة ، ويتكوّن فيها رأي قاطع ، لن تكون المناهج الفلسفية أولاً ، ولا العلوم ثانياً ، منتجةً ولا مثمرة.
٢ ـ إنّ من المسائل المهمة في هذا العلم تقييم ما يريه الذهن بصُوَرِه وإدراكاته. فَبَعْدَ الإذعان بأنَّ هناك عالماً واقعياً وراء الذهن ، والإنسان جزء منه ، يقع الكلام في مدى صحة ما يعكسه الذهن عن ذلك العالم ، وأنّ الإدراكات الذهنية هل هي مطابقة للواقع مطابقة تامة ، أو أنّ ما يدركه الذهن شبح وطيف من الحقيقة ، وليس هو نسخة مطابقة للأصل ، بل هناك فروق ماهوية بين العلوم الذهنية والكونيات الخارجية؟
ولا شك أنّه ما لم يثبت إمكان صلة الإنسان بالواقع الخارجي ، وما لم يتقرر مدى إراءة الذهن وصوره للواقع الخارجي ، فلن يقدر الإنسان على اتّخاذ أي رأي في مجال المعارف الكلّية الفلسفية أولاً ، والكونية الطبيعية ثانياً.
ومُجْمَل القول : إنّ المعارف الكليّة والعلمية التي تحتل مكانة عالية عند البشر ، سواءٌ أقلنا إنّ للعلم شرافة ذاتية بها ترتفع قيمة الإنسان كما بالجهل تنخفض ، أم قلنا إنّ شرافة العلوم وقيمتها ناشئة من إعانتها الإنسان في رفاه حياته المادية ـ على كل تقدير إن تلك المعارف والعلوم ومجمل الأفكار البشرية ، لا يقام لها وزن ولا اعتبار ما لم تعلم قيمة نفس المعرفة بأبعادها المختلفة ، وبالدرجة الأولى اتّخاذ موقف حاسم فيها يرجع إلى وجود عالم واقعي وراء الذهن أولا ، ثمّ على فرض وجوده ، بيان مدى قدرة الذهن وأدواته التي تجهّز بها ، على كشف ما وراءها ، هل تكشفه كشفاً تامّاً ، أو أنّها لا تكشف إلّا عن صورة ناقصة له؟
٣ ـ إنّ أدوات المعرفة العادية تتلخص في : العقل والحسّ. وهما وسيلتا اتّصال الإنسان بخارجه. وما يقف عليه الإنسان من المعارف والعلوم إنّما يقف عليه من طريقهما. فلزم لذلك معرفة تلك الأدوات والقوانين السائدة عليها معرفة تامّة ، إذ بدون ذلك لا يمكن أن نستنتج بواسطتها معارف كلّية أو علوماً كونية.
إنّ مَثَلَ الذهن ـ الذي هو ـ بأدواته ـ الآلة الوحيدة للإدراك ، وكيفية عمله ، مَثَلُ آلة التصوير الّتي هي الآلة الوحيدة للمصور ، فكما أنّ المصوَّر الماهر إِنّما يقدر على التصوير المتقن المُعْرِب عن الواقع ، إذا كان عالماً بنظرية آلة