التصوير وكيفية تركيبها وصنعها وإعمالها والتحكم فيها ، وبدون ذلك يختل عمل التصوير ، ويفشل بالتالي في إخراج صور مطابقة للواقع ، فكذلك الحكيم والعالم الباحثان عن الحقائق ، يلزمهما التعرّف على الذهن ، وأدواته ، وقدرة عمله ، وسائر خصوصياته.
فإذا كنّا نرى أنّ الباحثين في الفلسفة منقسمين إلى طائفتين : إلهيةٍ ترى نطاق الوجود أوسع من المادة ، وماديةٍ تنظر إلى عالم الوجود بمنظار ضيق ، فتحصره في المادة والطاقة ، فما هذا إلّا لاختلافهم في أدوات المعرفة. فمن يرى أنّ كلاً من العقل والحسّ أداة للمعرفة ، يقول بالطبيعة وما وراءها ، ومن يلغي العقل ويحصر أداة المعرفة في الحسّ ، يجنح إلى المادة وينكر ما وراءها.
إنّ هذه الوجوه ، وغيرها مما ستقف عليه في ثنايا الكتاب ، تُظْهر المكانة المرموقة التي تحتلها «نظرية المعرفة» بين العلوم البشرية ، وأنّها أساس كل معرفة ونظرية يتبناها الإنسان ، سواء أكان إلهياً أم ماديّاً ، وفيلسوفاً أم عالماً طبيعياً.
فلما لم يتخذ الباحث موقفاً حاسماً في مسائل نظرية المعرفة ، لن يمكنه الإذعان بشيء من سائر المعارف ، فكأنّ نظريةَ المعرفة ، أبجدُ العلوم وألف باؤها ، فهي الحجر الأساس لكل رأي ونظر يتبناه العالم في كل من مجالَيْ الفلسفة والعلم الطبيعي.
* * *