وقد جاء في فواصل الآيات قوله : (يَتَفَكَّرُونَ) ، (يَسْمَعُونَ) ، (يَعْقِلُونَ) ، مشيرةً إلى أنّ دراسة هذه الآيات يوقفنا على أنّه سبحانه هو المدبّر كما هو الخالق ، ببيان أنّ الإمعان فيها يعرب عن أنّ الخلق والتدبير ممتزجان ، بحيث لا يمكن أن ينسب الخلق إلى فاعلٍ والتدبير إلى فاعلٍ آخر ، فإنّ ذلك إنّما يتصور إذا كان التدبير منفصلاً عن الخلق ، كما في ربّ البستان وغيره ، فإنّه إنّما يهيئ له ما يضمن بقاءه من تنظيف الأرض ، وشق الجداول وتنقيتها ، وإيصال الماء إلى الأصول ، وتسميد الأرض وغير ذلك ممّا يصلح الأشجار ويهيِّئها للإثمار ، من دون أن يكون هو خالقاً للأشجار والثمار بوجه من الوجوه. وأمّا العامل الّذي يشاهده الإنسان ، وجاء ذكره في الآيات ، فإنّما هو سبيكة واحدة امتزج فيها الخلق والتدبير ، فلا يمكن الفصل بينهما.
وقد استدلّ إبراهيم عليهالسلام على بطلان ربوبية الكوكب والقمر والشمس بآثارها الحسيّة ، وهي أُفولها وغيبتها عن الإنسان ، ولا يصحّ أن يكون الربُّ غائباً عن مربوبه ، فكيف يمكن أن تُعَدَّ الأفلاك أرباباً للإنسان الّذي يحتاج إلى التدبير في جميع آنات عمره ولحظات حياته؟
يقول تعالى حاكياً هذا الاستدلال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).
__________________
(١) الأنعام : ٧٥ ـ ٧٩.