أولاً : لا شكّ أنّ ما ينفع في الحياة ويعطي الراحة والرفاهية ، وينشر السلام ويبسط الأمن والاستقرار ، أمر مطلوب جداً. غير أنّ الكلام في أنّ الإنسان هل يتمحض في الشئون المادية ، من أمنه وسلامه ، وشَبَعه وارتوائه ، ورَوْحه وريحانه ، بحيث إنّ كل ما لا يمت إلى ذلك بصلة فهو مرفوض ، ويجب أن يشطب عليه بقلم عريض ، ويرمى بأنّه معدوم أو غير قابل للمعرفة؟ أو أنّ للإنسان شئوناً أوسع من تلك ، وتتطلع نفسه إلى ما هو أبعد ، وإن لم يقع في طريق حياته ، أو يؤمن رفاهه ورغد عيشه؟
إنّ تمحيض الإنسان وتلخيصه في المرحلة الأُولى ، نظرة إلى عالم الوجود بمنظارٍ ضيق. وإن التقوّل بأنّ كل ما لا يقع في خدمة «أنا» ، فهو ليس بموجود أو لا يعرف ، فكرة خاطئة ناشئة من أنانية ماديّة ، وتنزيل للإنسان من مقام إنسانيته الشامخ ، إلى درجة البهيمة الّتي لا يهمها إلّا ماؤها وعلفها(١).
وثانياً ـ إنّ تخصيص المعرفة بما يقع في طريق العمل وخدمة الإنسان ، كبح لجماح البعد العلمي الّذي اختمرت به النفس الإنسانية. وقد كشف علماء النفس أنّ للوجود الإنساني أبعاداً روحية مثلى ، هي :
ـ روح الاستطلاع واستكشاف الحقائق.
ـ حب الخير والنزوع إلى البِرّ والمعروف.
ـ عشق الفن والجمال.
ـ الشعور الديني.
فإنّ البعدين الأول والثالث ، يدفعاننا إلى التعرّف على كلّ ما تناله قدرة العقل البشري ، سواء أكان راجعاً إلى الإنسان (أنا) أم لا. كما أنّ الشعور الديني يدفعنا إلى التعرف على ما يتصل بهذا الشعور. فتخصيص المعرفة بما ينفع في حياتنا المادية ، طمسٌ لهذه الأبعاد الفطرية المسلّمة عند علماء النفس.
__________________
(١) قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «فما خُلِقْتُ لِيَشْغَلَني أَكْلُ الطيّبات ، كالبهيمة المربوطة ، هَمُّهْا علفها ، أو المُرْسَلَةِ شُغْلُها تَقَمُّمُها ، تَكْتَرِشُ من أعلافها ، وتلهو عما يراد بها». (نهج البلاغة ، قسم الكتب ، من كتاب له عليهالسلام إلى عثمان بن حُنَيْف).