والمكانة العلمية المرموقة ، تأثيراً في انبهار العيون وانجذاب النفوس إليها ، قهراً بلا اختيار. ومن الناس من يجعل المنزلة مقياساً للحق والباطل ، فإذا سمع كلاماً من شخصية بارزة يتلقّاه حقّاً بحجة أنّ قائله ذو مكانة اجتماعية أو مرتبة عالية. كما أنّه إذا تلقى كلاماً أو رأياً من فاقد تلك المنزلة ، لا يعطيه بالاً أو يجعله في خانة الشك والترديد ، وهذا من موانع نيل الواقع ومعرفة الحق والباطل.
فالواجب على كل متحرٍّ للحقيقة اجتناب هذه العادة الجارية بين السذج من الناس ، فإنّ الشخصيات الاجتماعية والعلمية ، مهما بلغت في درجات السلطة والوقار أو العلم والكمال ، ليست بمعصومة ، وإنّما العصمة تختص بالأنبياء وأوصيائهم (١) ، وأمّا غيرهم فيجوز عليهم الخطأ والاشتباه. فعليه أن ينظر إليهم بعين الاحترام والتوقير ، لا متابعتهم في المسائل العقلية والعلمية بلا دليل وبرهان ، فإنّ التبعية في هذه المجالات ، تُعْقِم العقول عن الإبداع ، وتُحَجِّر الطاقات الباطنية عن التفتح والازدهار. وإنّما ينظر إلى نفس الكلام ، بغض النظر عمّن صدر منه.
وفي التعاليم الإسلامية إيعاز إلى ذلك ، نذكر منه :
ـ ما روي عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام أنّه قال : «أُنظر إلى ما قال ، ولا تنظر إلى من قال».
وما روي عنه عليهالسلام عند ما سئل عن محاربته طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين ، وهم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أيمكن أن يجتمعوا على باطل؟ فقال : «إنّك لملبوس عليك ، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال ، اعرف الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل تعرف أهله» (٢).
وقد كان لانبهار عيون الشرقيين بإنجازات الغرب الصناعية ، تأثيرٌ كبيرٌ
__________________
(١) لأدلة تأتي في بحث النبوة العامة.
(٢) «علي وبنوه» ، للدكتور طه حسين ، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفاته ، المجلد الرابع : ٤٦٨ ، ط دار الكتاب اللبناني ، ١٩٣٩ م بيروت.
ويعلّق طه حسين على هذا الحديث بعد نقله بقوله : «وما أعرف جواباً أروع من هذا الكتاب ...».