والعقل ، وما يتركب منهما. وبها يكتسب ما لا يعلمه إطلاقاً ، أو يُخرج إلى الفعلية ما يعلمه بالقوة من الإدراكات الفطرية الأولية. وانكار واحدةٍ من تلك الأدوات ، نتيجته شلُّ الفكر الإنساني عن إدراك ما يحيط به من كونٍ ووجود ، غائب ومشهود. كما أنَّ إثباتها مع إنكار كاشفيتها أو القول بنسبيتها أو الشك فيها ، نتيجته تخطئة المعارف والعلوم البشرية ، وسلب الإنسان ذلك الكمال.
وفي هاتين المرتبتين زلّت أقدام الكثيرين ، فأنكرت جماعة أداة العقل كلية ، وحصرها آخرون في بعض المدركات الفطرية. وأنكر قوم كاشفية أدوات المعرفة ، وقال بعض بنسبيتها ، وشك آخرون في مطابقة معطياتها للواقع. وقد كانت هذه وخزات ، لا بل طعنات في صميم قلب المعرفة البشرية ، فأسدل الكثيرون الستار على الغيب ، وحجزوا مواهب الإنسان بين جدران ضيّقة ، فابتعدوا عن الحق جلّ شأنه ، وسقطوا بالتالي في الهاوية ، (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (١).
فما أحوج كلّ عالِمٍ إلى التحقيق في قيمة المعرفة وأدواتها ، ليدرك حدودها ، ويَعِيَ أُطُرَها ، فلا يحجز نفسه عن علم وكمال ، ولا يسوقها إلى مهلكة وضياع.
وبين هذه وتلك ، مسائل على جانب كبير من الأهمية ، تَصُبّ بأجمعها ضمن المحيط المرسوم أعلاه. ولئلا نُجْمِل ونبهم ، نُلمع إلى بعضٍ منها :
فبعد أن نذعن بأنّا ندرك حقائق وقضايا ما ، كيف يمكننا أن نحكم بصدقها وخطئها؟ وبعبارة ثانية : ما هو الملاك الذي يكون به الشيء حقاً أو باطلاً؟.
وبعد أن نعرف ذلك الملاك ، كيف نعرف بأنّ هذه القضية العلمية أو الفلسفية المطروحة أمامنا ، متصفة به؟ وما هي الوسيلة التي بها نستكشف وجود ملاك الحقيقة أو الوهم في قضية من القضايا؟.
وفي البابين آراء وأنظار ، وللغربيّين زلّات وشطحات :
ففي الباب الأول : جعل بعضهم الحقيقة والبطلان دائرين مدار قبول المجتمع له ورفضه ، ويلاحظ ذلك لدى الفيلسوف الفرنسي «أوغست كونت» (٢)
__________________
(١) سورة الحشر : الآية ٥٩.
(٢)etmoC etsuguA ، (١٧٩٨ ـ ١٨٥٧ م).