والمواقفة علما ، فليس يمتنع أن يكون في ذلك أغراض وفوائد يفعل لأجلها ؛ لأن بالمحاسبة والمسائلة وشهادة الجوارح تنكشف حال أهل الجنّة وحال أهل النار ، ويتميّز كلّ فريق من صاحبه ، فيسّر بذلك أهل الجنّة والثواب ، ويشتدّ إليه سكونهم وبه انتفاعهم ، ويغتمّ به أهل العقاب ويعظم لأجله انزعاجهم وقلقهم بانتظار وقوع العقاب بهم. وغير ممتنع أن يكون في العلم بذلك والتوقّع له في أحوال التكليف زجر عن القبيح ، وبعث في فعل الواجب.
وقد نطق القرآن بالمحاسبة (١) ، واجتمعت الأمّة على وقوعها ، فلا وجه للشكّ فيها ، وكذلك نشر المصحف (٢) ، وشهادة الجوارح.
غير أن المسألة وان كانت عامّة فإنّها مترتّبة ، فتكون للمؤمنين سهلة خفيفة لا إيلام فيها ، وللكافر على سبيل المناقشة والتبكيت والتهجين ، وقد فصل القرآن بتصريحه بين الحسابين.
وأمّا كيفيّة شهادة الجوارح ، فقيل إن الله تعالى بناها بنية حيّ منفصل فتشهد بذلك. وقيل : إنّه تعالى يفعل الشهادة فيها ، وأضافها إلى الجوارح مجازا.
وفي الوجه الأوّل من المجاز مثل ما في الثاني ؛ لأن الأوّل يقتضي أن اليد والرجل خرجت من كونها يدا ورجلا إذا بنيت بنية حيّ منفصل ، والظاهر إضافة الشهادة إلى الجوارح.
وقد قيل : إن الشهادة وقعت من العاصي نفسه ، وأحوج إلى أن يشهد بما فعل ويقرّبه ، وبنى الله تعالى جوارحه بنيّة يمكن أن يستعمل في الكلام ، ويكون آلة فيه.
ويقوي هذا الوجه قوله تعالى : (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) ، ومعلوم أن شهادة اللسان هي فعل صاحب اللسان ، وكذلك باقي الجوارح ، وقد يقول أحدنا لغيره : «أقرّ لسانك بكذا» وإنّما الإقرار بالحيّ ، وكلّ هذا جائز.
__________________
(١) مثل آية ٤٠ سورة رعد.
(٢) مثل آية ١٠ سورة تكوير.