معنى خلقه لأفعال العباد أنّه مقدّر لها ، ومعرّف لنا مقاديرها ومراتبها وما به نستحقّ عليها من الجزاء.
وليس يمتنع أن يقال : إنّه خالق للأعمال على هذا المعنى إذا ارتفع الابهام وفهم المراد ؛ فهذا كلّه تقتضيه الآية. ولو لم يكن في الآية شيء ممّا ذكرناه ممّا يوجب العدول عن حمل قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) على خلق نفس الأعمال لوجب أن نعدل بها عن ذلك ، ونحملها على ما ذكرناه بالأدلة العقلية الدّالة على أنّه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمالنا ، وإن تصرّفنا محدث بنا ، ولا فاعل له سوانا ؛ وكلّ هذا واضح بيّن (١).
[الثاني : فان قيل :] وظاهر هذا القول يقتضي انّه تعالى خلق أعمال العباد ، فما الوجه فيه وما عذر إبراهيم عليهالسلام في إطلاقه؟.
الجواب : قلنا : من تأمّل هذه الآية حقّ التأمّل ، علم أنّ معناها بخلاف ما يظنّه المجبّرة ؛ لأنّ قوله تعالى خبر عن إبراهيم عليهالسلام بأنّه عيّر قومه بعبادة الأصنام واتخاذها آلهة من دون الله تعالى ، بقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ، وإنّما أراد المنحوت وما حمله النحت دون عملهم الّذي هو النحت ؛ لأنّ القوم لم يكونوا يعبدون النحت الّذي هو فعلهم في الأجسام ، وانّما كانوا يعبدون الأجسام أنفسها ثم قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وهذا الكلام لا بد من أن يكون متعلّقا بالأول ومتضمنا لما يقتضي المنع من عبادة الأصنام ، ولا يكون بهذه الصفة إلّا والمراد بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) الأصنام الّتي كانوا ينحتونها ، فكأنّه تعالى قال : كيف تعبدون ما خلقه الله تعالى ، كما خلقكم. وليس لهم أن يقولوا : إنّ الكلام الثاني قد يتعلّق بالكلام الأوّل على خلاف ما قدّرتموه ؛ لأنّه إذا أراد انّ الله خلقكم وخلق أعمالكم ، فقد تعلّق الثاني بالأوّل ؛ لأنّ من خلقه الله لا يجوز أن يعبد غيره. وذلك أنّه لو اراد ما ظنّوه ، لكفى أن يقول الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ). ويصير ما ضمّنه إلى ذلك من قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) لغوا
__________________
(١) الأمالي ، ٢ : ٢٠٣.