وأبيض من ماء الحديد كأنّه |
|
شهاب بدا واللّيل داج عساكره |
(١) كأنّه قال : وأبيض كائن من ماء الحديد ، وقوله : «من ماء الحديد» وصف لأبيض ، وليس يتّصل به كاتّصال «من» بأفضل في قولك : هو أفضل من زيد ، ولفظة «من» في بيت المتنبّي مرفوعة الموضع ، لأنّها وصف لأسود ؛ وإذا أريد المفاضلة والتعجّب كانت منصوبة الموضع بأسود كما يقال : «زيد خير منك» ، فمنك في موضع نصب بخير ، كأنّه قال : قد خارك بخيرك ، أي فضلك في الخير ؛ وهذا التأويل المذكور في بيت المتنبّي يمكن أن يقال في قول الشاعر :
أبيض من أخت بني إباض
ويحمل على أنّه أراد من جملتها ومن قومها ، ولم يرد التعجّب وتأوّله على هذا الوجه أولى من حمله على الشذوذ ، فأمّا قول المتنبّي :
أبعد بعدت بياضا لا بياض له
فالمعنى الظاهر للناس فيه أنّه أراد : لا ضياء له ولا نور ولا إشراق ، من حيث كان حلوله محزنا مؤذنا بتقضي الأجل ؛ وهذا لعمري معنى ظاهر ؛ إلّا أنه يمكن فيه معنى آخر ؛ وهو أنّه يريد إنّك بياض لا لون بعده ، لأنّ البياض آخر ألوان الشعر ، فجعل قوله : «لا بياض له» بمنزلة قوله : لا لون بعده ، وإنّما سوّغ ذلك له أنّ البياض هو الآتي بعد السّواد ، فلمّا نفى أن يكون للشيب بياض كان نفيا لأن يكون بعده لون.
وقد اختلف القراء في فتح الميم وكسرها من قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) ، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو بفتح الميمين معا ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائيّ بكسر الميم فيهما معا ، وفي رواية حفص عن عاصم : لا يكسرهما ، وكسر أبو عمرو الأولى وفتح الأخيرة ؛ ولكلّ وجه ، أمّا من ترك إمالة الجميع ؛ فإن قوله حسن ، لأنّ كثيرا من
__________________
(١) البيت في شرح العكبري لبيت المتنبي ، أورده من غير عزو.