الآية لم يحصل ، وأنّ الامتناع منه إنّما هو لفقد العلم به ، وأنّ قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) تبكيت وتقريع لم يقعا موقعهما ؛ وإنّما هو على سبيل المحاجزة والمدافعة عن الجواب.
وفي هذه الآية وجوه من التّأويل تبطل ما ظنّوه ، وتدلّ على ما جهلوه :
أوّلها : أنّه تعالى إنّما عدل عن جوابهم لعلمه بأنّ ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدّين ، وأنّ الجواب لو صدر منه إليهم لازدادوا فسادا وعنادا ؛ إذ كانوا بسؤالهم متعنّتين لا مستفيدين ؛ وليس هذا بمنكر ؛ لأنّا قد نعلم في كثير من الأحوال ممّن يسألنا عن الشّيء أنّ العدول عن جوابه أولى وأصلح في تدبيره.
وقد قيل إنّ اليهود قالت لكفار قريش : سلوا محمدا عن الرّوح فإن أجابكم فليس بنبيّ ، وان لم يجبكم فهو نبيّ ؛ فإنّا نجد في كتبنا ذلك ؛ فأمره الله تعالى بالعدول عن ذلك ليكون علما ودلالة على صدقه ، وتكذيبا لليهود الرادّين عليه ؛ وهذا جواب أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبّائيّ (١).
وثانيها : أنّ القوم إنّما سألوه عن الرّوح : هل هي محدثة مخلوقة أو ليست كذلك؟ فأجابهم إنّها من أمر ربّي ، وهو جوابهم عمّا سألوه عنه بعينه ؛ لأنّه لا فرق بين أن يقول في الجواب : إنّها محدثة مخلوقة ، وبين قوله إنّها من أمر ربّي ؛ لأنّه إنّما أراد أنّها من فعله وخلقه ، وسواء على هذا الجواب أن تكون الرّوح التي سألوا عنها هي التي بها قوام الجسد أو عيسى عليهالسلام ، أم جبرئيل صلّى الله عليه. وقد سمّى الله جبرائيل روحا ، وعيسى أيضا مسمّى بذلك في القرآن.
وثالثها : أنّهم سألوا عن الرّوح الذي هو القرآن ، وقد سمّى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب ؛ فإذا كان السؤال عن القرآن فقد وقع الجواب
__________________
(١) حاشية بعض النسخ : «أبو علي من قرية يقال لها جبّاء ؛ وهي من رستاق كاور من ناحية الأهواز ، ويقال لأهل هذه الناحية الربعيون ؛ لأنهم كانوا استنفروا ليقاتلوا الحسين عليهالسلام فجاؤوا وقد فرغ من أمره ، فطلبوا الأجرة ، فقال ابن زياد : إنكم لم تبلوا بلاء ، وأعطى كل واحد منهم ربع دينار. قال دامت أيامه : أخبرني بذلك العراقي البصري». وكانت وفاة أبي علي هذا في سنة ٣٠٦. (وانظر ترجمته في ابن خلكان : ٤٨١ ـ ٤٨٠).