وأسقط عنه كلفة الاستعجال بترداد تلاوته ، والمسابقة إلى تلاوة كلّ ما يسمعه منه ؛ تخفيفا عنه وترفيها له ، وأكّدوا ذلك بقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي إذا انتهينا إلى غاية ما تريد إنزاله في تلك الحال ، فحينئذ اتّبع قراءة ذلك وتلاوته ، فلم يبق منه ما ينتظر في الحال نزوله.
والوجه الآخر أنهم قالوا : إنّما نهى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تلاوة القرآن على أمّته وأداء ما يسمعه منه إليهم ، قبل أن يوحى الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ببيانه ، والإيضاح عن معناه وتأويله ؛ لأنّ تلاوته على من لا يفهم معناه ، ولا يعرف مغزاه لا تحسن.
قالوا : ومعنى قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) المراد به : قبل أن يقضي إليك وحي بيانه ، وتفسير معناه ؛ لأنّ لفظة «القضاء» وإن كانت على وجوه معروفة في اللغة ، فهي هاهنا بمعنى الفراغ والانتهاء إلى الغاية ؛ كما قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (١).
وكما قال الشاعر :
ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة |
|
ومسّح بالأركان من هو ماسح (٢) |
أي فرغنا من حاجاتنا ، وانتهينا إلى غاية الوطر منها.
فأمّا الجواب الثالث الزائد على ما ذكر : فهو أنّه غير ممتنع أن يريد : لا تعجل بأن تستدعي من القرآن ما لم يوح إليك به ؛ فإنّ الله تعالى إذا علم مصلحة في إنزال القرآن عليك أمر بإنزاله ، ولم يدّخره عنك ؛ لأنّه لا يدخّر عن عباده الاطّلاع لهم على مصالحهم.
فإن قيل على هذا الوجه : إنّه يخالف الظاهر ؛ لأنّه تعالى قال : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) ولم يقل بطلبه واستدعائه ، والظاهر يقتضي أنّ الاستعجال بنفس القرآن لا بغيره.
قلنا : الأمر على ما ظنّه السائل. وعلى الوجوه الثلاثة في تأويل الآية لا بدّ من تقدير ما ليس في الظاهر ؛ لأنّ على الوجهين الأولين المذكورين لا بدّ من أن
__________________
(١) سورة فصلت ، الآية : ١٢.
(٢) البيت ينسب لكثير ؛ وانظر الجزء الأول.