وبذلك يظهر الجواب عما يتوهم من أنّ الوسطية لا تختص بامة خاتم الأنبياء (صلىاللهعليهوآله) ، بل قد تتحقق في جميع الأمم الماضين ، بل مقتضى قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [سورة الواقعة ، الآية : ١٣] أنها فيهم أكثر ، فلا تكون الشهادة منحصرة في أمة محمد (صلىاللهعليهوآله) أو في بعضهم. فان السير التكاملي يقتضي أن يكون خاتم الأنبياء (صلىاللهعليهوآله) أشرفهم ، وقد برهن بالبراهين الكثيرة أن مقامه مقام جمع الجمع ، جامع لجميع مقامات الأنبياء مع الزيادة عليها التي لا يحيط بها إلّا الله تعالى ، فهو بدء الخلق وغاية التكوين.
كما أن شرف ورفعة كل أمة بنبيها فتكون أمته (صلىاللهعليهوآله) أشرف الأمم ، وشريعته أكمل الشرايع الإلهية وأتمها ، فيصير العاملون بها شهداء الخلق ، للارتباط بين الغاية وذيها تكوينا ، والواسطة في الإفاضة وذويها طبعا ، فلا يبقى مجال بعد ذلك لغيرهم الذين هم دونهم في الدرجة. وفي الحديث انه قال (صلىاللهعليهوآله) : «إن لواء الحمد بيدي وآدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة».
وربما يتوهم أيضا أنه لا فائدة في هذه الشهادة ، لأنّها إما في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما معا. أما الشهادة في الدنيا فليس لها أثر ؛ وأما في الآخرة فلا فائدة فيها بعد كون اليوم يوم ظهور الحقائق وبروزها يوم تبلى السرائر ، والإشهاد إنما هو لإبراز المخفيات لا ما هو ظاهر للعيان.
الجواب إنّه يقال : إنّ الإشهاد فيهما معا ، أما الإشهاد في الدنيا فلأجل بيان أن له العمل. وأما في الآخرة فلابطال ما يعتذر به العبد ، وبذلك تتم الحجة عليه ، فالشهادة متحققة في المعاد حتّى يقع الخلود في الجنّة أو في النار ، فإن كل قضية كثرت اهميتها كان الإحتجاج عليها أشد ولا قضية مطلقا في عالم الوجود أهم من الخلود فانه من أهم قضايا المبدأ والمعاد ، وأهم ما يتعلق بأصل العبودية والربوبية العظمى فلا بد من إتمام الحجة لتمييز الأخيار من الأشرار ، وأهل الجنّة من أهل النار ، وبذلك تتم الحجة في الدارين لئلا يكون للنّاس على الله حجة.