فإنه غير بريء ، ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم.
فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به ، هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى ، أم هو متبع للشرع؟
وأما الخاصية الثانية : فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم ، لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها ، فهم المرجوع إليهم في بيان من هو متبع للمحكم فيقلد في الدين ، ومن هو المتبع للمتشابه فلا يقلد أصلا.
ولكن له علامة ظاهرة أيضا نبه عليها الحديث الذي فسرت الآية به ، قال فيه : «فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم» (١) خرّجه القاضي إسماعيل بن إسحاق ، وقد تقدم أول الكتاب ، فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان.
وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك ، إذ المتشابه لا يعطي بيانا شافيا ، ولا يقف منه متبعه على حقيقة ، فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به ، والنظر فيه لا يتخلص له ، فهو على شك أبدا ، وبذلك يفارق الراسخ في العلم ، لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبا لإزالته ، فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر.
وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه ، فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله.
ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران ، وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في عيسى ابن مريم عليهماالسلام ، وأنه الله ، أو أنه ثالث ثلاثة ، مستدلين بأمور متشابهات من قوله : فعلنا وخلقنا وهذا كلام جماعة. ومن أنه يبرئ الأكمه
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ٣٨٠ ، الحاشية : ٢.