وأما أن يجمع بينهما ، فتجعل النقل الأول عمدة في عموم قبول التوبة ، ويكون هذا الإخبار أمرا آخرا زائدا على ذلك ، إذ لا يتنافيان ، بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى ، وغلبة الهوى للإنسان في الشيء المفعول أو المتروك له أبدا أثر فيه.
والبدع كلها تصاحب الهوى ، ولذلك سمي أصحابها أهل الأهواء ، فوقعت التسمية بها ، وهو الغالب عليهم ، إذ العمل المبتدع إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل ، لا عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي في الظاهر ، فكان أجرى في البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبّه ، ثم إنه يتفاوت ، إذ ليس في رتبة واحدة ولكنه تشريع كله ، واستحق صاحبه أن لا توبة له ، عافانا الله من النار بفضله ومنّه.
وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول ـ على فرض العمل به ـ ونقول : إن ما تقدم من الأخبار عامة ، وهذا يفيد الخصوص كما تفيده ، أو يفيد معنى يفهم منهم الخصوص ، وهو الإشراب في أعلى المراتب مسوقا مساق التبغيض ، قوله : «وإنه سيخرج في أمتي أقوام» (١) إلى آخره ، فدل أن ثمّ أقواما أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال ، بل هي أدنى من ذلك ، وقد لا تتجارى بهم ذلك.
وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع ، وتمام المسألة قد مرّ في الباب الثاني والحمد لله ، لكن على وجه لا يكون في الأحاديث كلها تخصيص ، وبالله التوفيق.
المسألة الخامسة والعشرون :
إنه جاء في بعض روايات الحديث : «أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمر برأيهم ، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال» (٢) فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس ، ولا كل قياس ، بل القياس على غير أصل ، فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل لا يصح ، وإنما يكون على أصل من كتاب أو سنّة صحيحة أو إجماع معتبر ، فإذا لم يكن للقياس
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.
(٢) عزاه في مجمع الزوائد (١ / ١٧٩) إلى البزار والطبراني في الكبير.