فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ، ولهذا لا يسبى الراهب وترك له ماله أو ما قلّ منه ، على الخلاف في ذلك ، وغيره ممن لا يقاتل يسبى ويملك ، وإنما ذلك لما زعم أنه حبس نفسه له ، وهي عبادة الله تعالى ، وإن كانت عبادته أبطل الباطل ، فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطإ فيه وإن كان يظن ذلك ظنا ، وتتبع مثل هذا يطول.
وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع : هل يقتضي فساد النهي عنه؟ وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم ، فكيف بهذا؟
وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه ، فقد خرجت عن حيز الإشكال ، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل ، ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له ، ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة.
انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان ، فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا.
فصل
فإذا تقرر هذا : فلنرجع إلى ما احتجوا به.
أولا : فأما من حد الاستحسان بأنه : ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه ، فكأن هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ، ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك ، بل يجوز أن يرد بأن ما سبق إلى أوهام العوام ـ مثلا ـ فهو حكم الله عليهم ، فيلزمهم العمل بمقتضاه ، ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون ، فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل.
وأيضا : فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة ، ولم يقل أحد منهم : إني حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه ، أو لأنه يوافق محبتي ورضائي ، ولو قال ذلك لاشتد عليه النكير ، وقيل له : من أين لك أن تحكم على عباد الله بمحض ميل النفس وهوى القلب؟ هذا مقطوع ببطلانه.