فهذا الإطلاق يقتضي أنه نوع من التحريم ، وله وجه ظاهر ؛ فقد أشار إسماعيل إلى أن الرجل كان إذا حلف أن لا يفعل شيئا من الحلال لم يجز له أن يفعله حتى نزلت كفارة اليمين ، لأجل ما كان قبل من التحريم ، ولما وردت الكفارة سمي تحريما ، ومن ثم ـ والله أعلم ـ سميت كفارة.
المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم ، أما الأول فلا مدخل له هاهنا ، لأن التحريم تشريع كالتحليل ، والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع ، اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام ، ؛ فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله فضلا عن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الخصوص.
وقد وقع للمهلب في شرح البخاري ما قد يشعر بأن المراد في الآية التحريم بالمعنى الأول. فقال : التحريم إنما هو لله ولرسوله ، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئا ، وقد وبخ الله من فعل ذلك ، فقال : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) فجعل ذلك من الاعتداء ، وقال : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (١) قال : فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء.
وما قاله المهلب يرده السبب في نزول الآية ، وليس كما تقرر ، ولذلك لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الأول ، فصار مقصورا على المحرم دون غيره.
وأما التحريم بالمعنى الثاني فلا حرج فيه في الجملة ؛ لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم ، فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ، ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به ، حتى يحرمه على نفسه ، لا بمعنى التحريم الأول ، ولا الثالث ، بل بمعنى التوقي منه كما تتوقى سائر المؤلمات.
ويدخل هاهنا بالمعنى امتناع النبي صلىاللهعليهوسلم من أكل الثوم ، لأنه كان يناجي الملائكة ، وهي تتأذى من رائحته ، وكذلك كل ما تكره رائحته.
ولعل هذا المحل أولى من قول من قال : إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع ، والمعنيان متقاربان ، وكلاهما غير داخل في معنى الأمر.
__________________
(١) سورة : النحل ، الآية : ١١٦.