قوم إن قمت بها قاموا عليك ، وربما ذهب دمك ، فقال : دع هذا الكلام وخذ في غيره.
فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء ، إذ لا مفسدة في الدنيا توازي مفسدة إماتة السنّة ، وقد حصلت النسبة إلى البدعة ؛ ولكن الطرطوشي رحمهالله لم ير ذلك شيئا فكلامه للاتباع أولى من كلام هذا الراد ، إذ بينهما في العلم ما بينهما.
وأيضا فلو اعتبر ما قال لزم اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة الاجتماع يوم عرفة في غير عرفة ، ومنهم نافع مولى ابن عمر ومالك والليث وعطاء وغيرهم من السلف ، ولما كان ذلك غير لازم فمسألتنا كذلك.
ثم ختم هذا الاستدلال الإجماعي بقوله : وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة : فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية.
فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائما لا يترك كما يفعل بالسنن ـ وهي مسألتنا المفروضة ـ فقد تقدم ما فيه.
فصل
ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم ، وهو أن الدعاء على ذلك الوجه لم يرد في الشرع نهي عنه مع وجود الترغيب فيه على الجملة ، ووجود العمل به ، فإن صح أن السلف لم يعملوا به ، فالترك ليس بموجب لحكم في المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة ، لا تحريم ولا كراهية.
وجميع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصا في العبادات ـ التي هي مسألتنا ـ إذ ليس لأحد من خلق الله أن يخترع في الشريعة من رأيه أمرا لا يوجد عليه منها دليل ، لأنه عين البدعة ، وهذا كذلك ، إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهرا للحاضرين في آثار الصلوات دائما ، على حد ما تقام ، بحيث يعد الخارج عنه خارجا عن جماعة أهل الإسلام متحيزا ومتميزا إلى سائر ما ذكر ، وكل ما لا يدل عليه دليل فهو البدعة.
وعلى هذا فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المقلدين خير من اتباع الصالحين من السلف ، ولو كان في أحد جائزين ، فكيف إذا كان أمرين أحدهما متيقن أنه صحيح