فصل
إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة ، بل هو على مراتب مختلفة ، من جهة كون صاحبها مستترا بها أو معلنا ، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ، ومن جهة كونها بيّنة أو مشكلة ، ومن جهة كونها كفرا أو غير كفر ، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه ، إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن.
وهذا المعنى وإن لم يخف على العالم بالأصول فلا يترك التنبيه على وجه التفاوت بقلو جمليّ ، فهو الأولى في هذا المقام.
فأما الاختلاف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد أو مقلدا : فظاهر ، لأن الزيغ في قلب الناظر في المتشابهات ابتغاء تأويلها ، أمكن منه في قلب المقلد وإن ادّعى النظر أيضا ، لأن المقلد الناظر لا بدّ من استناده إلى مقلّده في بعض الأصول التي يبنى عليها ، أو المقلد قد انفرد بها دونه ، فهو آخذ بحظّ ما لم يأخذ فيه الآخر ، إلا أن يكون هذا المقلد ناظرا لنفسه ، فحينئذ لا يدعي رتبة التقليد فصار في درجة الأول ، وزاد عليه الأول بأنه أول من سنّ تلك السنة السيئة ، فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها ، وهذا الثاني ممن عمل بها فيكون على الأول من إثمه ما عينه الحديث الصحيح ، فوزره أعظم على كل تقدير ، والثاني دونه لأنه إن نظر وعاند الحق واحتج لرأيه ، فليس له إلا أدلة جملية لا تفصيلية ، والفرق بينهما ظاهر ، فإن الأدلة التفصيلية أبلغ في الاحتجاج على عين المسألة من الأدلة الجملية ، فتكون المبالغة في الوزر بمقدار المبالغة في الاستدلال.
وأما الاختلاف من جهة وقوعها في الضروريات أو غيرها : فالإشارة إليه ستأتي عند التكلم على أحكام البدع.
وأما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان : فظاهر أن المسر بها ضرره مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره ، فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة ، هي باقية على أصل حكمها ، فإذا أعلن بها ـ وإن لم يدع إليها ـ فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به.