بالنسبة إلى ما لم يصيبوا فيه قليلة فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار ، وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل ، ولله الحجّة البالغة ، والنعمة السابغة.
فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل ، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك ، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ، ولا بذات دون ذات ولا بصفة دون صفة ، ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية ، وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد؟ لا سبيل له دعوى الاستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية ـ لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة ، ولا قصور ولا نقص ، بل مبادئها موضوعة على وفق الغايات ، وهي من الحكمة.
ووجه ثالث : وهو أن ما ندعي علمه في الحياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إلى البديهي الضروري وغيره إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة ، إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لا بدّ في تحصيلها من توسط مقدمتين معترف بهما ، فإن كانتا ضروريتين فذاك ، وإن كانتا مكتسبتين فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين ، وينظر فيهما كما تقدم ، وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلا بد للمكتسبة من مقدمتين ، فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب ، وإلا لزم التسلسل أو الدور ، وكلاهما محال ، فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري.
وحاصل الأمر أنه لا بدّ من معرفتها بمقدمتين حصلت لنا كل واحدة منهما مما علقناه وعلمناه من مشاهد باطنة ، كالألم واللذة أو بديهي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد ، وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار ، فإنا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذا الدار ، وأما ما ليس بمعتاد فقبل النبوات لم يتقدم لنا به معرفة ، فلو بقينا على ذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا ، ولأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا والحيوان حجرا ، وما أشبه ذلك ، لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى.
فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقادها