الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل ، قال العلماء : لم يكن فيه في زمان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حد مقدر ، وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير ، ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرّره على طريق النظر بأربعين ، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس فجمع الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم ، فقال علي رضي الله عنه : من سكر هذى ومن هذى افترى ، فأرى عليه حد المفتري (١).
ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات ، والمظنة مقام الحكمة ، فقد جعل الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال ، وجعل الحافر للبئر ، في محل العدوان وإن لم يكن ثم مرد كالمردي نفسه ، وحرم الخلوة بالأجنبية حذرا من الذريعة إلى الفساد ، إلى غير ذلك من الفساد ، فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي تقتضيه كثرة الهذيان ، فإنه أول سابق إلى السكران ـ قالوا ـ فهذا من أوضح الأدلة على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها (يعني على الخصوص به) وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم.
المثال الثالث :
إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه : لا يصلح الناس إلا ذاك ، ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع ، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال ، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين : إما ترك الاستصناع بالكلية ، وذلك شاق على الخلق ، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع ، فتضيع الأموال ، ويقل الاحتراز ، وتتطرق الخيانة ، فكانت المصلحة التضمين. هذا معنى قوله : «لا يصلح الناس إلا ذاك».
ولا يقال : إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء ، إذ لعله ما أفسد ، ولا فرط ، فالتضمين مع ذلك كان نوعا من الفساد ، لأنا نقول : إذا تقابلت المصلحة والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقوع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد ، والغالب
__________________
(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ ، باب : الحد في الخمر (الحديث : ٢ / ٨٤٢).